كتاب النبوات،
قال ابن تيمية :
فصل ودليل الشيء مشروط بتصور المدلول عليه فلا يعرف آيات الانبياء إلا من عرف ما اختص به الانبياء وامتازوا به عمن سواهم والنبوة مشتقة من الانباء والنبي فعيل وفعيل قد يكون بمعنى فاعل أي منبئ وبمعنى مفعول أي منبأ وهما هنا متلازمان فالنبي الذي ينبئ بما أنبأه الله به والنبي الذي نبأه الله وهو منبأ بما أنبأه الله به وما أنبأه الله به لا يكون كذبا وما أنبأ به النبي عن الله لا يكون يطابق كذبا لا خطأ ولا عمدا فلا بد أن يكون صادقا فيما يخبر به عن الله يطابق خبره مخبره لا تكون فيه مخالفة لا عمدا ولا خطأ وهذا معنى قول من قال هم معصومون فيما يبلغونه عن الله لكن لفظ الصادق وإن النبي صادق مصدوق نطق به القرآن وهو مدلول الآيات والبراهين ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله والله يعصمك من الناس أي من أذاهم فمعنى هذا اللفظ في القرآن هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأ وعمدا والتعبير عن حقائق الايمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها فان ألفاظ القرآن يجب الايمان بها وهي تنزيل من حكيم حميد والأمة متفقة عليها ويجب الاقرار بمضمونها قبل أن تفهم وفيها من الحكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق وقد يضطرب في معناه وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والاسلام كما قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بيانا شافيا فإنها تنظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل كما قال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تلك آيات الكتاب الحكيم وفيه
النبوات [ جزء 1 - صفحة 236 ]
من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد مالا يوجد في كلام أحد من العباد ففيه أصول الدين المفيدة لليقين وهي أصول دين الله ورسوله لا اصول دين محدث ورأي مبتدع وقد يكون معصوما على لغة القرآن بمعنى أن الله عصمه من الشياطين شياطين الانس والجن وأن يغيروا ما بعث به أو يمنعوه عن تبليغه فلا يكتم ولا يكذب كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه وهذا في معنى عصمته من الناس فهو المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر فلا يكون فيها كذب ولا كتمان ولفظ الإنباء يتضمن معنى الإعلام والإخبار لكنه في عامة موارد استعماله أخص من مطلق الأخبار فهو يستعمل في الإخبار بالامور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة كما قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وقال فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير وقال قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون وقال عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذين هم فيه مختلفون وقال وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كان فيكم ما قاتلوا إلا قليلا وقال ولتعلمن نبأه بعد حين وقال لكل نبأ مستقر وقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين الى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وقوله يعتذرون اليكم اذا رجعتم اليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون فهذا في خطاب المنافقين ولم يقل والمؤمنون لأنهم لم يكونوا يطلعون المؤمنين على ما في بطونهم وهذا بخلاف قوله يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها فإنها أمور مشهودة يعرفها
النبوات [ جزء 1 - صفحة 237 ]
الناس لكن العجب كون الأرض تخبر بذلك فالعجب في المخبر لا في الخبر كشهادة الأعضاء وقال قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ان كنتم صادقين وجمع النبي أنبياء مثل ولي وأولياء ووصي وأوصياء وقوي وأقوياء ويشبهه حبيب وأحباء كما قال تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ففعيل اذا كان معتلا أو مضاعفا جمع على أفعلاء بخلاف حكيم وحكماء وعليم وعلماء وهو من النبا وأصله الهمزة وقد قرئ به وهي قراءة نافع يقرأ النبئ لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية وقد قيل هو من النبو وهو العلو فمعنى النبي المعلى الرفيع المنزلة والتحقيق أن هذا المعنى داخل في الأول فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه فلا يكون الا رفيع القدر عليا وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة اذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي بل يوصف بأنه الأعلى كما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون وقراءة الهمز قاطعة بأنه مهموز وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا نبي الله ولست بنبئ الله فما رأيت له إسنادا لا مسندا ولا مرسلا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ولا السير المعروفة ومثل هذا لا يعتمد عليه واللفظان مشتركان في الاشتقاق الأكبر فكلاهما فيه النون والباء وفي هذا الهمزه وفي هذا الحرف المعتل لكن الهمزة أشرف فإنها أقوى قال سبويه هي نبوة من الخلق تشبه التهوع فالمعنى الذي يدل عليه ويمكن أن تلين فتصير حرفا معتلا فيعبر عنه باللفظين بخلاف المعتل فإنه لا يجعل همزة فلو كان أصله نبي مثل علي ووصي وولي لم يجز أن يقال بالهمز كما لا يقال علئ ووصيء ووليء بالهمز وإذا كان أصله الهمز جاز تليين الهمزة وإن لم يكثر استعماله كما في لفظ خبئ وخبيئة وأيضا فإن تصريفه أنبأ ونبأ وينبئ بالهمزة ولم يستعمل فيه نبا ينبو وإنما يقال هذا ينبو عنه والماء ينبو عن القدم اذا كان يجفو عنها ويقال النبوة وفي فلان نبوة عنا أي مجانبة فيجب القطع بأن النبي ماخوذ من الإنباء لا من النبوة والله أعلم
فصل قد تقدم أن للناس في وجه دلالة المعجزات وهي آيات الأنبياء على
النبوات [ جزء 1 - صفحة 238 ]
نبوتهم طرقا متعددة منهم من قال دلالت
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات