فصل قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم قد بينها الله في القرآن أحسن بيان وبين دلائل الربوبية والوحدانية ودلائل أسماء الرب وصفاته وبين دلائل نبوة أنبيائه وبين المعاد بين إمكانه وقدرته عليه في غير موضع وبين وقوعة بالادلة السمعية والعقلية فكان في بيان الله أصول الدين الحق وهو دين الله وهي أصول ثابتة صحيحة معلومة فتضمن بيان العلم النافع والعمل الصالح الهدى ودين الحق وأهل البدع الذين ابتدعوا أصول دين يخالف ذلك ليس فيما ابتدعوه لا هدى ولا دين حق فابتدعوا ما زعموا أنه أدلة وبراهين على إثبات الصانع وصدق الرسول وإمكان المعاد أو وقوعه وفيما ابتدعوه ما خالفوا به الشرع وكل ما خالفوه من الشرع فقد خالفوا فيه العقل أيضا فإن الذي بعث الله به محمدا وغيره من الانبياء هو حق وصدق وتدل عليه الادلة العقلية فهو ثابت بالسمع والعقل والذين خالفوا الرسل ليس معهم لا سمع ولا عقل كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 156 ]
فسحقا لاصحاب السعير وقال تعالى لمكذبي الرسل أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ذكر ذلك بعد قوله وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة وهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ثم قال أفلم يسيروا في الارض الآية ثم قال وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير فذكر إهلاك من أهلك وأملاءه لمن أملى لئلا يغتر المغتر فيقول نحن لم يهلكنا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن ما جاء به الرسول يدل عليه السمع والعقل وهو حق في نفسه كالحكم الذي يحكم به فإنه يحكم بالعدل وهو الشرع فالعدل هو الشرع والشرع هو العدل ولهذا يأمر نبيه أن يحكم بالقسط وأن يحكم بما أنزل الله والذي أنزل الله هو القسط والقسط هو الذي أنزل الله وكذلك الحق والصدق هو ما أخبرت به الرسل وما أخبرت به فهو الحق والصدق والسلف والأئمة ذموا أهل الكلام المبتدعين الذين خالفوا الكتاب والسنة ومن خالف الكتاب والسنة لم يكن كلامه الا باطلا فالكلام الذي ذمه السلف يذم لانه باطل ولأنه يخالف الشرع ولكن لفظ الكلام لما كان مجملا لم يعرف كثير من الناس الفرق بين الكلام الذي ذموه وغيره فمن الناس من يظن أنهم إنما أنكروا كلام القدرية فقط كما ذكره البيهقي وابن عساكر في تفسير كلام الشافعي ونحوه ليخرجوا أصحابهم عن الذم وليس كذلك بل الشافعي أنكر كلام الجهمية كلام حفص الفرد وأمثاله وهؤلاء كانت منازعتهم في الصفات والقرآن والرؤية لا في القدر وكذلك أحمد بن حنبل خصومه من أهل الكلام هم الجهمية الذين ناظروه في القرآن مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم يكونوا قدرية ولا كان النزاع في مسائل القدر ولهذا يصرح أحمد وأمثاله من السلف بذم الجهمية بل يكفرونهم أعظم من سائر الطوائف وقال عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما أصول أهل
النبوات [ جزء 1 - صفحة 157 ]
الاهواء أربع الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية فقيل لهم الجهمية فقالوا الجهمية ليسوا من أمة محمد ولهذا ذكر أبو عبد الله بن حامد عن اصحاب أحمد في الجهمية هل هم من الثنتين والسبعين فرقة وجهين أحدهما أنهم ليسوا منهم لخروجهم عن الاسلام وطائفة تظن أن الكلام الذي ذمه السلف هو مطلق النظر والاحتجاج والمناظرة ويزعم من يزعم من هؤلاء أن قوله ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن منسوخ بآية السيف وهؤلاء أيضا غالطون فان الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح وابراهيم بمجادلتهم للكفار حتى قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقال عن قوم ابراهيم وحاجه قومه الى قوله وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه وذكر محاجة ابراهيم للكافر والقرآن فيه من مناظرة الكفار والاحتجاج عليهم ما فيه شفاء وكفاية وقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقوله وجادلهم بالتي هي أحسن ليس في القرآن ما ينسخهما ولكن بعض الناس يظن أن من المجادلة ترك الجهاد بالسيف وكل ما كان متضمنا لترك الجهاد المأمور به فهو منسوخ بآيات السيف والجهاد والمجادلة قد تكون مع أهل الذمة والهدنة والأمان ومن لا يجوز قتاله بالسيف وقد تكون في ابتداء الدعوة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الكفار بالقرآن وقد تكون لبيان الحق وشفاء القلوب من الشبه مع من يطلب الاستهداء والبيان وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن المبتدعين الذين ابتدعوا كلاما وأصولا تخالف الكتاب وهي أيضا مخالفة للميزان وهو العدل فهي مخالفة للسمع والعقل كما ابتدعوا في اثبات الصانع إثباته بحدوث الاجسام وأثبتوا حدوث الاجسام بأنها مستلزمة للاعراض لا تنفك عنها قالوا وما لايخلوا عن الحوادث فهو حادث لامتناع لا أول لها فهؤلاء إذا حقق عليهم ما قالوه لم يوجدوا قد أثبتوا العلم بالصانع ولا أثبتوا النبوة ولا أثبتوا المعاد وهذه هي أصول الدين والايمان بل كلامهم في الخلق والبعث المبدأ والمعاد وفي اثبات الصانع ليس فيه تحقيق العلم لا عقلا ولا نقلا وهم معترفون بذلك كما قال الرازي لقد تأملت الطرق الكلامية
النبوات [ جزء 1 - صفحة 158 ]
والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في النفي ليس كمثله شيء و لا يحيطون به علما وأقرأ في الاثبات الرحمن على العرش استوى اليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء ثم قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وكذلك الغزالي وابن عقيل وغيرهما يقولون ما يشبه هذا وهو كما قالوا فان الرازي قد جمع ما جمعه من طرق المتكلمين والفلاسفة ومع هذا فليس في كتبه اثبات الصانع كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين جميع ما ذكره في اثبات الصانع وأنه ليس فيه ذلك وليس فيه أيضا اثبات النبوة فان النبوة مبناها على أن الله قادر وأنه يحدث الآيات لتصدق بها الرسل وليس في كتبه اثبات ان الله قادر ولا مريد بل كلامه فيه تقرير حجج من نفي قدرته وارادته دون الجانب الآخر كما قد بينا ذلك في الكلام على ما ذكره في مسألة القدرة والارادة مع أنه ولله الحمد الادلة الدالة على اثبات الصانع واثبات قدرته ومشيئته تفوق الاحصاء لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وسبب ذلك إعراضهم عن الفطرة العقلية والشرعة النبوية بما ابتدعه المبتدعون مما أفسدوا به الفطرة والشرعة فصاروا يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما قد بين هذا في مواضع وأيضا فإذا عرف أن الله قادر كما قد عرفه غيره فليس عنده في النبوة الا طريق أصحابه الأشعرية الذين سلكوا مسلك الجهمية في أفعال الله تعالى أو طريق الفلاسفة ولهذا يقول من يقول من علماء الزيدية وهم يميلون الى الاعتزال مع تشيع الزيدية يقولون نحن لا نتكلم في الشافعي فإنه إمام لكن هؤلاء صاروا جهمية يعني القدر فلاسفة والشافعي لم يكن جهميا ولا فيلسوفا وهؤلاء لم يعرفوا آيات الانبياء والفرق بينها وبين غيرها لكن ادعوا ان ما يأتي به الكهان والسحرة وغيرهم قد يكون من آيات الانبياء لكن بشرط أن لا يقدر أحد من المرسل اليهم على معارضته وهذه خاصة المعجز عندهم وهذا فاسد من وجوه كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع وأما كلامه في المعاد فأبعد
النبوات [ جزء 1 - صفحة 159 ]
من هذا وهذا كما قد بين ايضا وكذلك كلام من تقدمه من الجهمية وأتباعهم من الأشعرية وغيرهم ومن المعتزلة فإنك لا تجد في كلامهم الذي ابتدعوه لا إثبات الربوبية ولا النبوة ولا المعاد والأشعري نفسه وأتباعه ليس في كتبهم إثبات الربوبية ولا المعاد وكذلك من سلك سبيلهم في أدلتهم من أتباع الفقهاء كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم والمعتزلة كذلك أيضا وكذلك الكرامية وقد تأملت كلام أئمة هؤلاء الطوائف كأبي الحسين البصري ونحوه من المعتزلة وكابن الهيضم من الكرامية وكأبي الحسن نفسه والقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وأبي اسحاق الأسفراييني وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني غفر الله لهم ورحمهم أجمعين وتأملت ما وجدته في الصفات من المقالات مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني وكتاب مقالات الاسلاميين للأشعري وهو أجمع كتاب رأيته في هذا الفن وقد ذكر فيه ما ذكر أنه مقالة أهل السنة والحديث وأنه يختارها وهي أقرب ما ذكره من المقالات الى السنة والحديث لكن فيه أمور لم يقلها أحد من أهل السنة والحديث ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها ولا هو خبير بها فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن لافي المقالات المجردة ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه ولكن بعضهم أقرب الى السنة من بعض وقد يكون هذا أقرب في بعض وهذا أقرب في مواضع وهذا لكون أصل اعتمادهم لم يكن على القرآن والحديث بخلاف الفقهاء فإنهم في كثير مما يقولونه إنما يعتمدون على القرآن والحديث فلهذا كانوا أكثر متابعة لكن ما تكلم فيه أولئك أجل ولهذا يعظمون من وجه ويذمون من وجه فإن لهم حسنات وفضائل وسعيا مشكورا وخطأهم بعد الاجتهاد مغفور والأشعري أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني ولهذا ذكر عشر طوائف وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني وهو أعلم بمقالات أهل السنة وأقرب اليهم وأوسع علما من
النبوات [ جزء 1 - صفحة 160 ]
الشهرستاني والشهرستاني أعلم باختلاف المختلفين ومقالاتهم من الغزالي ولهذا ذكر لهم في القرآن أربع مقالات وعدد طوائف من أهل القبلة والغزالي حصر أهل العلم الآلهي في أربعة اصناف في الفلاسفة والباطنية والمتكلمين والصوفية فلم يعرف مقالات أهل الحديث والسنة ولا مقالات الفقهاء ولا مقالات أئمة الصوفية ولكن ذكر عنهم العمل وذكر عن بعضهم اعتقادا يخالفهم فيه أئمتهم وأبو طالب أعلم منهما بأقوال الصوفية ومع هذا فلم يعرف مقالة الأكابر كالفضيل بن عياض ونحوه وأبو الوليد بن رشد الحفيد حصر أهل العلم الآلهي في ثلاثة في الحشوية والباطنية والأشعرية والباطنية عنده يدخل فيهم باطنية الصوفية وباطنية الفلاسفة ومن هنا دخل ابن سبعين وابن عربي فأخذوا مذاهب الفلاسفة وادخلوها في التصوف وأبو حامد يدخل في بعض هذا فإن ابن سينا تكلم في مقالات العارفين بتصوف فاسد ثم ان هؤلاء مع هذا لما لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم بل ولا نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم صار منهم من يقول كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب وأنهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة ويقولون أيضا ان الرسول لم يعلمهم هذا لئلا يشتغلوا به عن الجهاد فانه كان محتاجا اليهم في الجهاد وهكذا يقول من يقول من مبتدعة أهل الزهد والتصوف إذا دخلوا في عبادات منهي عنها ومذمومة في الشرع قالوا كان الصحابة مشغولين عنها بالجهاد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يشتغلوا بها عن الجهاد واهل السيف قد يظن من يظن منهم أن لهم من الجهاد وقتال الاعداء مالم يكن مثله للصحابة وأن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن مثل جهادهم ومن أهل الكلام من يقول بل الصحابة كانوا على عقائدهم وأصولهم لكن لم يتكلموا بذلك لعدم حاجتهم اليه فهؤلاء جمعوا بين أمرين بين أن ابتدعوا أقوالا باطلة ظنوا أنها هي أصول الدين لا يكون علاما بالدين الا من وافقهم عليها وأنهم علموا وبينوا من الحق مالم يبينه الرسول والصحابة وإذا تدبر الخبير حقيقة ما هم عليه تبين له أنه ليس عند القوم فيما ابتدعوه لا علم ولا دين لا شرع ولا عقل وآخرون لما رأوا ابتداع هؤلاء وأن الصحابة والتابعين لم يكونوا يقولون مثل قولهم ظنوا أنهم كانوا كالعامة الذين لا يعرفون الأدلة والحجج وأنهم كانوا لا يفهمون ما في
النبوات [ جزء 1 - صفحة 161 ]
القرآن مما تشابه على من تشابه عليه وهموتو أنه اذا كان الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله كان المراد أنه لا يفهم معناه الا الله لا الرسول ولا الصحابة فصاروا ينسبون الصحابة بل والرسول الى عدم العلم بالسمع والعقل وجعلوهم مثل أنفسهم لا يسمعون ولا يعقلون وظنوا أن هذه طريقة السلف وهي الجهل البسيط التي لا يعقل صاحبها ولا يسمع وهذا وصف أهل النار لا وصف افضل الخلق بعد الانبياء قال ابن مسعود رضي الله عنه من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فان الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الامة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه واقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فانهم كانوا على الهدى المستقيم وقال أيضا ان الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد قال تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان فرضي عن السابقين مطلقا ورضي عمن اتبعهم باحسان وذلك متناول لكل من اتبعهم الى يوم القيامة كما ذكر ذلك أهل العلم قال ابن أبي حاتم قرئ على يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله والذين اتبعوهم باحسان قال من بقي من أهل الاسلام إلى أن تقوم الساعة وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الهدى البيان والأدلة والبراهين في القرآن فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأرسله بالآيات البينات وهي الأدلة البينة الدالة على الحق وكذلك سائر الرسل ومن الممتنع أن يرسل الله رسولا يأمر الناس بتصديقه ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه وكذلك من قال إني رسول الله فمن الممتنع أن يجعل مجرد الخبر المحتمل للصدق والكذب دليلا له وحجة على الناس
النبوات [ جزء 1 - صفحة 162 ]
هذا لا يظن بأجهل الخلق فكيف بأفضل الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من نبي من الانبياء الا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة قال تعالى ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون فالبينات جمع بينة وهي الادلة والبراهين التي هي بينة في نفسها وبها يتبين غيرها يقال بين الامر أي تبين في نفسه ويقال بين غيره فالبين اسم لما ظهر في نفسه ولما أظهر غيره وكذلك المبين كقوله فاحشة مبينة أي متبينة فهذا شأن الادلة فان مقدماتها تكون معلومة بنفسها كالمقدمات الحسية والبديهية وبها يتبين غيرها فيستدل على الخفي بالجلي والهدى مصدر هداه هدى والهدى هو بيان ما ينتفع به الناس ويحتاجون اليه وهو ضد الضلالة فالضال يضل عن مقصوده وطريق مقصوده وهو سبحانه بين في كتبه ما يهدي الناس فعرفهم ما يقصدون وما يسلكون من الطرق عرفهم أن الله هو المقصود المعبود وحده وأنه لا يجوز عبادة غيره وعرفهم الطريق وهو ما يعبدونه به ففي الهدى بيان المعبود وما يعبد به والبينات فيها بيان الأدلة والبراهين على ذلك فليس ما يخبر به ويأمر به من الهدى قولا مجردا عن دليله ليؤخذ تقليدا واتباعا للظن بل هو مبين بالآيات البينات وهي الأدلة اليقينية والبراهين القطعية وكان عند أهل الكتاب من البينات الدالة على نبوة محمد وصحة ما جاء به أمور متعددة كبشارات كتبهم وغير ذلك فكانوا يكتمونه قال تعالى ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله فإنه كان عندهم شهادة من الله تشهد بما جاء به محمد وبمثله فكتموها وقال تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فانزله هاديا للناس وبينات من الهدى والفرقان فهو يهدي الناس إلى صراط مستقيم يهديهم الى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الارض بما فيه من الخبر والأمر وهو بينات دلالات وبراهين من الهدى من الأدلة الهادية المبينة للحق ومن الفرقان المفرق بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب والمأمور والمحظور والحلال والحرام
النبوات [ جزء 1 - صفحة 163 ]
وذلك أن الدليل لا يتم الا بالجواب عن المعارض فالادلة تشتبه كثيرا بما يعارضها فلا بد من الفرق بين الدليل الدال على الحق وبين ما عارضه ليتبين ان الذي عارضه باطل فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق لكن لا بد مع ذلك من الفرقان وهو الفرق بين ذلك الدليل وبين ما عارضه والفرق بين خبر الرب والخبر الذي يخالفه فالفرقان يحصل به التمييز بين المشتبهات ومن لم يحصل له الفرقان كان في اشتباه وحيرة والهدى التام لا يكون الا مع الفرقان فلهذا قال أو لا هدى للناس ثم قال وبينات من الهدى والفرقان فالبينات الأدلة على ما تقدم من الهدى وهي بينات من الهدى الذي هو دليل على أن الأول هدى ومن الفرقان الذي يفرق بين البينات والشبهات والحجج الصحيحة والفاسدة فالهدى مثل أن يؤمر بسلوك الطريق إلى الله كما يؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله والبينات ما يدل ويبين أن ذلك هو الطريق وأن سالكه سالك للطريق لا ضال والفرقان أن يفرق بين ذاك الطريق وغيره وبين الدليل الذي يسلكه ويدل الناس عليه وبين غيرهم ممن يدعي الدلالة وهو جاهل مضل وهذا وامثاله مما يبين أن في القرآن الادلة الدالة للناس على تحقيق ما فيه من الأخبار والاوامر كثير وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا الكلام على النبوة فإن المتكلمين المبتدعين تكلموا في النبوات بكلام كثير لبسوا فيه الحق بالباطل كما فعلوا مثل ذلك في غير النبوات كالإلهيات وكالمعاد وعند التحقيق لم يعرفوا النبوة ولم يثبتوا ما يدل عليها فليس عندهم لا هدى ولا بينات والله سبحانه أنزل في كتبه البينات والهدى فمن تصور الشيء على وجهه فقد اهتدى اليه ومن عرف دليل ثبوته فقد عرف البينات فالتصور الصحيح اهتداء والدليل الذي يبين التصديق بذلك التصور بينات والله أنزل الكتاب هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والقرآن اثبت الصفات على وجه التفصيل ونفي عنها التمثيل وهي طريقة الرسل جاءوا باثبات مفصل ونفي مجمل وأعداؤهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فلو لم يكن الحق فيما بينه الرسول للناس وأظهر لهم بل كان الحق في نقيضه للزم أن يكون عدم الرسول خيرا من وجوده إذ كان وجوده لم يفدهم عند هؤلاء علما ولا هدى بل ذكر أقوالا تدل على الباطل
النبوات [ جزء 1 - صفحة 164 ]
وطلب منهم أن يتعلموا الهدى بعقولهم ونظرهم ثم ينظروا فيما جاء به فأما أن يتأولوه ويحرفوا الكلم عن مواضعه وإما أن يعوضوه فذكرنا هذا ونحوه مما يبين أن الهدى مأخوذ عن الرسول وأنه قد بين للامة ما يجب اعتقاده من أصول الدين في الصفات وغيرها فكان الجواب خطابا مع من يقر بنبوته ويشهد له بأنه رسول الله فلم يذكر فيه دلائل النبوة وذكر أن الشبهات العقلية التي تعارض خبر الرسول باطلة وذكر في ذلك ما هو موجود في هذا الجواب ثم بعد ذلك حدثت أمور أوجبت أن يبسط الكلام في هذا الباب ويتكلم على حجج النفاة ويبين بطلانها ويتكلم على ما أثبتوه من أنه يجب تقديم ما يزعمون أنه معقول على ما علم بخبر الرسول وبسط في ذلك من الكلام والقواعد ما ليس هذا موضعه وتكلم مع الفلاسفة والملاحدة الذين يقولون ان الرسل خاطبوا خطابا قصدوا به التخييل الى العامة ما ينفعهم لا أنهم قصدوا الاخبار بالحقائق وهؤلاء لم يكن وقت الجواب قصد مخاطبتهم اذ كان هؤلاء في الحقيقة مكذبين المرسل يقولون أنهم كذبوا لما رأوه مصلحة بل كان الخطاب مع من يقر بأن الرسول لا يقول الا الحق باطنا وظاهرا ثم بعد هذا طلب الكلام على تقرير أصول الدين بأدلتها العقلية وان كانت مستفادة من تعليم الرسول وذكر فيها ما ذكر من دلائل النبوة في مصنف يتضمن شرح عقيدة صنفها شيخ المنظار بمصر شمس الدين الاصبهاني فطلب مني شرحها فشرحتها وذكرت فيها من الدلائل العقلية ما يعلم به أصول الدين وبعدها جاء كتاب من النصارى يتضمن الاحتجاج لدينهم بالعقل والسمع واحتجوا بما ذكروه من القرآن فأوجب ذلك أن يرد عليهم ويبين فساد ما احتجوا به من الأدلة السمعية من القرآن ومن كلام الانبياء المتقدمين وما احتجوا به من العقل وأنهم مخالفون للأنبياء وللعقل خالفوا المسيح ومن قبله وحرفوا كلامهم كما خالفوا العقل وبين ما يحتجون به من نصوص الانبياء وانها هي وغيرها من نصوص الانبياء التي عندهم حجة عليهم لا لهم وبين الجواب الصحيح لمن حرف دين المسيح وهم لم يطالبوا ببيان دلائل نبوة نبينا لكن اقتضت المصلحة أن يذكر من هذا ما يناسبه ويبسط الكلام في ذلك بسطا أكثر من غيره وقلوب كثير من الناس يجول فيها أمر النبوات وما جاءت به الرسل
النبوات [ جزء 1 - صفحة 165 ]
وهم وإن أظهروا تصديقهم والشهادة لهم ففي قلوبهم مرض ونفاق اذ كان ما جعلوه أصولا لدينهم معارض لما جاءت به الانبياء وهم لم يتعلموا ما جاءت به الانبياء ولم يأخذوا عنهم الدلائل والاصول والبينات والبراهين وإذا وجب أن يؤخذ عن الانبياء ما أخبروا به من أصول الدين ومن تصديق خبرهم مع وجود ما يعارضه فلأن يؤخذ عنهم ما بينوا به تلك العقائد من الآيات والبراهين أولى وأحرى فإنه بهذا يتبين ذاك وإلا فتصديق الخبر متوقف على دليل صحته أو على صدق المخبر به وتصديقه بدون أن يعلم أنه في نفسه حق أو أن المخبر به صادق قول بلا علم والرسول صلوات الله عليه وسلامه قد أرسل بالبينات والهدى بين الأحكام الخبرية والطلبية وأدلتها الدالة عليها بين المسائل والوسائل بين الدين ما يقال وما يعمل وبين اصوله التي بها يعلم أنه دين حق وهذا المعنى قد ذكره الله تعالى في غير موضع وبين أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ذكر هذا في سورة التوبة والفتح والصف والهدى هو هدى الخلق الى الحق وتعريفهم ذلك وإرشادهم اليه وهذا لا يكون الا بذكر الادلة والآيات الدالة على أن هذا هدى والا فمجرد خبر لم يعلم أنه حق ولم يقم دليل على أنه حق ليس بهدي وهو سبحانه اذا ذكر الانبياء نبينا وغيره ذكر انه أرسلهم بالآيات البينات وهي الادلة والبراهين البينة المعلومة علما يقينيا اذ كان كل دليل لا بد أن ينتهي الى مقدمات بينة بنفسها قد تسمى بديهيات وقد تسمى ضروريات وقد تسمى أوليات وقد يقال هي معلومة بأنفسها فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بالآيات البينات وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من نبي من الانبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله الي فأرجو أن أكون اكثرهم تابعا يوم القيامة وهو سبحانه اذا خاطب جنس الانس ذكر جنس الانبياء وأثبت جنس ما جاءوا به واذا خاطب أهل الكتاب المقرين بنبوة موسى خاطبهم باثبات نبي بعده كما قال في سورة البقرة في خطابه لبني اسرائيل لما ذكر ما ذكره من أحوالهم مع موسى وذكرهم بإنعامه عليهم وبما فعلوه من السيئات ومغفرته لها قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 166 ]
عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ثم ذكر محمدا فقال ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين فذكر سبحانه أنه أرسل المسيح اليهم بالبينات بعد ما أرسل قبله الرسل وأنهم تارة يكذبون الرسل وتارة يقتلونهم وذكر أنه أرسل عيسى بالبينات لأنه جاء بنسخ بعض شرع التوراة بخلاف من قبله ولهذا لم يذكر ذلك عنهم وقال في موسى إنه أتاه الكتاب لأنهم كانوا مقرين بنبوته ولكن حرفوا كتابه في المعنى باتفاق الناس وحرفوا اللفظ أحيانا وفي بعض المواضع وهو تعالى قد ذكر في غير موضع أنه أرسل موسى بالآيات البينات فقال لما ناجاه وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون الا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فاني غفور رحيم وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات الى فرعون وقومه انهم كانوا فاسقين وقال في سورة القصص يا موسى أقبل ولا تخف انك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك الى فرعون وملئه انهم كانوا قوما فاسقين وقال تعالى فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين وقد قال تعالى لما قص قصص الرسل نوح وهود وصالح وشعيب ونصره لهم وإهلاك أعدائهم ثم ذكر الانبياء عموما فقال وما أرسلنا في قرية من نبي الا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون الى قوله أو لم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القرى نقص عليك ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب
النبوات [ جزء 1 - صفحة 167 ]
الكافرين وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين فقد أخبر أن أهل القرى كلهم الذين أهلكهم جاءتهم رسلهم بالبينات ولكن شابه متأخروهم متقدميهم فما كان هؤلاء ليؤمنوا بما كذب به أشباههم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وهذا كقوله تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون قال تعالى ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين فبين سبحانه أنه بعث موسى بآياته وقال في أثناء القصة إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله الا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فارسل معي بني اسرائيل فأخبر أنه جاء ببينة من الله أي بآية بينة من الله بدليل من الله وبرهان فهي آية منه وعلامة منه على صدقي واني رسول منه فإن قوله من ربكم متعلق بالرسول وبالآية يقال فلان قد جاء بعلامة من فلان فالعلامة منه والرسول منه والآية منه كما قال فذانك برهانان من ربك فدل على أن كل واحد من الرسول ومن آيات الرسول هو من الله تعالى قال له فرعون ان كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين وذكر القصة ومعارضة السحرة له الى أن قال فأوحينا الى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل إن آذن لكم أن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا انا الى ربنا منقلبون وما تنقم منا الا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسليمن فذكر السحرة أنهم آمنوا بآيات ربهم لما جاءتهم وهم من أعلم الناس بالسحر لما علموا أن هذه الآيات آيات من الله كما قال موسى قد جئتكم ببينة من ربكم الى قوله فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين الى قوله فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وليس المراد بالآيات هنا كتابا منزلا فان موسى لما ذهب الى فرعون
النبوات [ جزء 1 - صفحة 168 ]
لم تكن التوراة قد نزلت وإنما أنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون وخلص ببني اسرائيل فاحتاجوا الى شريعة يعملون بها قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الآولى بصائر للناس وهدى ولكن تكذيبهم بآياته إنكارهم أن تكون آية من الله وقولهم إنها سحر كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين وكانوا عنها غافلين لم يذكروها ويتأملوا ما دلت عليه من صدق موسى وانه مرسل من الله فالتكذيب ضد التصديق والغفلة عنها ضد النظر فيها ولهذا قيل النظر تجريد العقل عن الغفلات وقيل هو تحديق العقل نحو المرئي والأول هو النظر الطلبي وهو طلب ما يدله على الحق والثاني هو النظر الاستدلالي وهو النظر في الدليل الذي يوصله الى الحق وهذا الثاني هو الذي يوجب العلم فذمهم على الغفلة عن آياته يتضمن النوعين النظر فيها والتأمل لها والتذكر لها ضد الغفلة عنها وهي آيات معينة فإذا جرد العقل عن الغفلة عنها وصدقه للنظر فيها حصل له العلم بها وقد يحصل العلم بها ولكن يمتنع عن اتباعها لهواه كما قال الله عن قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فإن الحق إذا ظهر صار معلوما بالضرورة والآيات والدلائل الظاهرة تدل على لوازمها بالضرورة لكن اتباع الهوى يصد عن التصديق بها واتباع ما أوجبه العلم بها وهذه حال عامة المكذبين مثل مكذبي محمد وموسى وغيرهما فإنهم علموا صدقهما علما يقينيا لما ظهر من آيات الصدق ودلائله الكثيرة لكن اتباع الهوى صد قال تعالى فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون وقال تعالى عن قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السماوات والأرض بصائر ولهذا قال وكانوا عنها غافلين فعلموا أنها حق وغفلوا عنها كما يغفل الانسان عما يعلمه ومنه الغفلة عن ذكر الله تعالى قال تعالى ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال
النبوات [ جزء 1 - صفحة 169 ]
ولا تكن من الغافلين وقال تعالى ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياته غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكذبون فذكر الذين هم عن آياته غافلون هنا كما ذكرهم هناك وهناك وصفهم بالتكذيب بها مع الغفلة عنها وضد الغفلة التذكر والتذكر لآياته سبحانه يوجب العلم بها وحضورها في القلب وهو موجب لاتباعها الا أن يمنعه هوى قال تعالى ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهو سبحانه لو علم فيهم خيرا وهو قصد الحق لأفهمهم لكنهم لا خير فيهم فلو أفهمهم لتولوا وهم معرضون وقال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقد ذكر الآيات التي هي دلائل النبوة منه في غير موضع غير ما تقدم كقوله تعالى فائتياه فقولا انا رسولا ربك فارسل معنا بني اسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى انا قد أوحي الينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الارض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم ان في ذلك لآيات لأولى النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله الى قوله عن السحرة لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وقال تعالى ورسولا الى بني إسرائيل اني قد جئتكم بآية من ربكم وقال تعالى وقالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى فالآيات التي هي دلائل النبوة وبراهينها هي آيات من الله وعلامات منه أنه أرسل الرسول وكما أن الآيات التي هي كلامه تتضمن إخباره لعباده وأمره ففيها
النبوات [ جزء 1 - صفحة 170 ]
الإعلام والالزام فكذلك دلائل النبوة هي آيات منه تتضمن إخباره لعباده بأن هذا رسوله وأمره لهم بطاعته ففيها الإعلام والإلزام وكما أن آياته القولية زعم المكذبون أنها ليست كلامه ولا منه بل هي من قول البشر وزعموا أن الرسول افتراها أو من معه أو تعلمها من غيره فكذلك الآيات الفعلية زعم المكذبون أنها ليست آية منه وعلامة ودلالة منه على أن الرسول ورسوله بل مما يفعله الرسول فيكذب وهذه من فعل المخلوقين لكنها عجيبة فهي سحر سحر بها الناس فلم يكن من المكذبين من قال انها من الله ولكن لم يخلقها لنصدقك بها بل خلقها لا لشيء أو خلقها وان كنت كاذبا فإنه قد يخلق مثل هذه على أيدي الكذابين ليضل بها الناس فإن هذا وان كان يقال انه قبيح فانه لا يقبح منه شيء كما أنه لم يكن في المكذبين من قال ان الكلام كلام الله لكنه كذب اذ الكذب وإن كان قبيحا من المخلوق فالخالق لا يقبح منه شيء وهذا لأنه من المعلوم بالفطرة الضرورية لجميع بني آدم ان الله لا يكذب ولا يفعل القبائح فلا يؤيد الكذاب بآيته ليضل بها الناس لكن قالوا ليست آية من الله بل هي سحر من عندك وهم وإن كانوا قد يعلمون أن الله خالق كل شيء ففرق بين ما يفعله البشر ويتوصلون إليه بالاكتساب وبين مالا قدرة لهم على التوصل إليه بسبب من الأسباب وفرق بين ما قد علموا أنه يخلقه لغير تصديق الرسل كالسحر فإنه لم يزل معروفا في بني آدم فقد علموا انه لا يخلقه آية وعلامة لنبي اذ كان موجودا لغير الانبياء معتادا منهم وإن كان عجيبا خارجا عن العادة عند من لم يعرفه بل كان المكذبون يطالبون الرسل بالآيات كقول فرعون فات بآية ان كنت من الصادقين وقول قوم صالح له إنما أنت من المسحرين ما أنت الا بشر مثلنا فأت بآية ان كنت من الصادقين وكانت الانبياء تأتي بالآيات وهي آيات بينات فيكذبون بها كما يكذب المعاند بالحق الظاهر المعلوم كما قال فرعون إنه ساحر ولما غلب السحرة وآمنوا واعترفوا بأن هذه آية من الله قال لهم فرعون إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها وهذا كذب ظاهر فإن موسى جاء من السام ولم يجتمع بالسحرة إنما فرعون جمعهم ولم يكن دين موسى دين السحرة ولا مقصودة مقصودهم بل هم وهو في غاية التعادي والتباين
النبوات [ جزء 1 - صفحة 171 ]
وكذلك سائر السحرة والكهنة مع الانبياء من أعظم الناس ذما لهم وأمرا بقتلهم مع تصديق الانبياء بعضهم ببعض وايجاب بعضهم الايمان ببعض وهم يأمرون بقتل من يكذب نبيا ويأمرون بقتل السحرة ومن آمن بهم والسحرة يذم بعضهم بعضا والانبياء يصدق بعضهم بعضا وهؤلاء يأمرون بعبادة الله وحده والصدق والعدل ويتبرءون من الشرك وأهله وهؤلاء يحبون أهل الشرك ويوالونهم ويبغضون أهل التوحيد والعدل فهذان جنسان متعاديان كتعادي الملائكة والشياطين كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون فمن جعل النبي ساحرا أو مجنونا هو بمنزلة من جعل الساحر أو المجنون نبيا وهذا من أعظم الفرية والتسوية بين الاضداد المختلفة وهو شر من قول من يجعل العاقل مجنونا والمجنون عاقلا أو يجعل الجاهل عالما والعالم جاهلا فإن الفرق بين النبي وبين الساحر والمجنون أعظم من الفرق بين العاقل والمجنون والعالم والجاهل وموسى صلوات الله عليه أمر بتصديق من يأتي بعده من الانبياء الصادقين كما أمر بتكذيب الكذابين وأما السحرة فإنه أمر بقتلهم وفي التوراة سأقيم لبني اسرائيل من إخوتهم نبيا مثلك اجعل كلامي على فمه كلكم يسمعون وهذا يقتضي طاعة من يقوم بعده من الانبياء ثم من الناس من يعين هذا فاليهود يقولون هو يوشع والنصارى يقولون هو المسيح وبعض المسلمين يقولون هو محمد صلى الله عليه وسلم يحتجون على ذلك بحجج كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع ومنهم من يقول بل هذا اسم جنس وهو عام في كل نبي يأتي بعده لئلا يكذبوه كما فعلت اليهود وانكروا النسخ وهذا القول أقرب فيدخل في هذا المسيح ومحمد ومن قبلهما من أنبياء بني اسرائيل فان المقصود أمرهم بتصديق الانبياء وطاعتهم وأن الله سبحانه ينزل على الانبياء كلامه فالذي يقولونه هو كلام الله ما سمعوا منه وبسط هذا له موضع آخر وقد بسط القول في أن الناس يعلمون بالضرورة أن الآيات التي يأتي بها الانبياء آيات من الله وعلامة أعلم بها عباده أنه أرسلهم وأمرهم بطاعتهم والذين كذبوا بها كانوا يقولون ليست من الله بل هي سحر أو كهانة أو نحو ذلك
النبوات [ جزء 1 - صفحة 172 ]
لا يقرون بأنها آية من الله ويقولون مع ذلك قد يخلقها الله لغير التصديق أو يخلقها ليضل بها الخلق أو نحو ذلك فإن بسط هذه الامور له موضع آخر والمقصود هنا أن الرسول بين للناس الادلة والبراهين الدالة على أصول الدين كلها كما قد ذكر سبحانه هذا في مواضع كقوله ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله وقوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ومن ذلك قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقد وصف الرسول بذلك في مواضع فذكر هذا في البقرة في دعوة ابراهيم وفي قوله تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وفي قوله واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وهنا لم يذكر يتلو عليهم آياته ويزكيهم لحكمة تختص بذلك وذكر هذا في آل عمران في قوله لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد قال واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وهذا شبه الموضع الثالث في البقرة فأخبر في غير موضع عن الرسول أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فالتلاوة والتزكية عامة لجميع المؤمنين فتلاوة الآيات يحصل بها العلم فإن الآيات هي العلامات والدلالات فاذا سمعوها دلتهم على المطلوب من تصديق الرسول فيما أخبر والإقرار بوجوب طاعته وأما التزكية فهي تحصل بطاعته فيما يأمرهم به من عبادة الله وحده وطاعته فالتزكية تكون بطاعة مرة كما أن تلاوة آياته يحصل بها العلم وسميت آيات القرآن آيات وقيل انها آيات الله كقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق لأنها علامات ودلالات على الله وعلى ما أراد فهي تدل على ما أخبر به وعلى ما أمر به ونهى عنه وتدل أيضا على أن الرسول صادق اذ
النبوات [ جزء 1 - صفحة 173 ]
كانت مما لا يستطيع الانس والجن أن يأتوا بمثلها وقد تحداهم بذلك كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وأيضا فهي نفسها فيها من بينات الادلة والبراهين ما يبين الحق فهي آيات من وجوه متعددة ثم قال ويعلمهم الكتاب والحكمة وهذا لمن يعلم ذلك منهم وقد يتعلم الشخص منهم بعض الكتاب والحكمة فالكتاب هو الكلام المنزل الذي يكتب والحكمة هي السنة وهي معرفة الدين والعمل به وقد قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ففرق بين الآيات الدالة على العلم التي يعلم بالعقل انها دلائل للرب وبين النذر وهو الإخبار عن المخوف كاخبار الانبياء بما يستحقه العصاة من العذاب فهذا يعلم بالخبر والنذر ولهذا قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وأما الآيات فتعلم دلالتها بالعقل والانبياء جاءوا بالآيات والنذر وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ومثل هذا كثير يذكر أن جميع الانبياء جاءوا بالآيات التي تعلم دلالتها بالعقل ولما كان كثير من الناس مقصرين فيما جاء به الرسول قد أخرجوا ما تعلم دلالته بالعقل عن مسمى الشرع تنازع الناس في معرفة الله وتوحيده وأصول الدين هل يجب ويحصل بالشرع أو يجب بالشرع ويحصل بالعقل أو يجب ويحصل بالعقل على ثلاثة أقوال مشهورة لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة فطائفة يقولون يجب بالشرع ويحصل به وهو قول السالمية وغيرهم مثل الشيخ أبي الفرج المقدسي وهذا هو الذي حكاه عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وكذلك من شابههم مثل ابن درباس وابن شكر وغيرهما من أصحاب الشافعي وهو المشهور عن أهل الحديث والفقه الذين يذمون الكلام وهذا مما وقع فيه النزاع بين صدقة بن الحسين الحنبلي المتكلم وبين طائفة من أصحاب أحمد وكذلك بين أبي الفرج بن الجوزي وطائفة منهم أولئك يقولون الوجوب والحصول بالشرع وهؤلاء يقولون الحصول بالعقل والوجوب بالشرع
النبوات [ جزء 1 - صفحة 174 ]
وقد ذكر الآمدي ثلاثة اقوال في طرق العلم قيل بالعقل فقط والسمع لا يحصل به كقول الرازي وقيل بالسمع فقط وهو الكتاب والسنة وقيل بكل منهما ورجح هذا وهو الصحيح والقول الثاني أنها لا تجب إلا بالشرع لكن يحصل بالعقل وهو قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم والقول الثالث أنها تحصل بالعقل وتجب به وهو قول من يوجب بالعقل كالمعتزلة والكرامية وغيرهم من أتباع الأئمة كأبي الحسن الآمدي وأبي الخطاب وغيرهم وهو قول طائفة من المالكية والشافعية وعليه أكثر الحنفية ونقلوه عن أبي حنيفة نفسه وقد صرح هؤلاء قبل المعتزلة وقبل أبي بكر الرازي وأبي الخطاب وغيرهم أن من لم يأته رسول يستحق العقوبة في الآخرة لمخالفته موجب العقل وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أعدل الأقوال أن الأفعال مشتملة على أوصاف تقتضي حسنها ووجوبها وتقتضي قبحها وتحريمها وأن ذلك قد يعلم بالعقل لكن الله لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولم يفرق سبحانه بين نوع ونوع وذكرنا أن هذه الآية يحتج بها الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهم يجوزون أن الله يعذب في الآخرة بلا ذنب حتى قالوا يعذب أطفال الآخرة فاحتجوا بها على المعتزلة والآية حجة على الطائفتين كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصل وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته وعلى من أنكر حكمته فأول ما أنزل الله تعالى اقرأ باسم ربك ال