كتاب النبوات،
قال ابن تيمية :
فصل الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم فإنه لو كان تارة يتحقق مع وجود المدلول عليه وتارة يتحقق مع عدمه فإذا تحقق لم يعلم هل وجد المدلول أم لا فإنه كما يوجد مع وجوده يوجد مع عدمه ولهذا كان الدليل إما مساويا للمدلول عليه وإما أخص منه لا يكون أعم من المدلول ولهذا لم يكن للأمور المعتادة دلالة على ما هو أخص كطلوع الشمس والقمر والكواكب لا يدل على صدق أحد ولا كذبه لا مدعي النبوة ولا غيره فإنها توجد مع كذب الكاذب كما توجد مع صدق الصادق لكن يدل على ما هو أعم منها وهو وجود الرب وقدرته ومشيئته وحكمته فان وجود ذاته وصفاته ثابت سواء كانت هذه المخلوقات موجودة أو لم تكن فيلزم من وجود المخلوق وجود خالقه ولا يلزم من عدمه عدم خالقه فلهذا كانت المخلوقات كلها آيات للرب فما من مخلوق إلا وهو آية له هو دليل وبرهان وعلامة على ذاته وصفاته ووحدانيته وإذا عدم كان غيره من المخلوقات يدل على ما دل عليه ويجتمع على المعلوم الواحد من الادلة ما لا يحصيه الا الله وقد يكون الشيء مستلزما لدليل معين فإذا عدم عرف انتفاؤه وهذا مما يكون لازما ملزوما فتكون الملازمة من الطرفين فيكون كل منهما دليلا وإذا قدر انتفاؤه كان دليلا على انتفاء الآخر كالادلة على الاحكام الشرعية فما من حكم إلا جعل الله عليه دليلا وإذا قدر انتفاء جميع الأدلة الشرعية على حكم علم أنه ليس حكما شرعيا وكذلك ما تتوفر الههم والدواعي على نقله فإنه اذا نقل دل التواتر على وجوده وإذا لم ينقل مع توفر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجودا علم أنه لم يوجد كالأمور الظاهرة التي يشترك فيها الناس مثل موت ملك وتبدل ملك
النبوات [ جزء 1 - صفحة 188 ]
بملك وبناء مدينة ظاهرة وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد فمثل هذه الامور لا بد أن ينقلها الناس اذا وقعت فإذا لم تنقل نقلا عاما بل نقلها واحد علم أنه قد كذب وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد بسط في غير هذا الموضع الفرق بين الآية التي هي علامة تدل على نفس المعلوم وبين القياس الشمولي الذي لا يدل الا على قدر كلي مشترك لا يدل على شيء معين اذ كان لا بد فيه من قضية كلية وأن ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأمور الموجودة ولا يفيد معرفة شيء لا الخالق ولا نبي من أنبيائه ولا نحو ذلك بل اذا قيل كل محدث فلا بد له من محدث دل على محدث مطلق لا يدل على عينه بخلاف آيات الله فانها تدل على عينه وبينا أن القرآن ذكر الاستدلال بآيات الله وقد يستدل بالقياس الشمولي والتمثيلي لكن دلالة الآيات أكمل وأتم وتبين غلط من عظم دلالة القياس الشمولي المنطقي وأنهم من أبعد الناس عن العلم والبيان وذكرنا أيضا غلط من فضل الشمولي على التمثيلي وأنهما من جنس واحد والتمثيلي أنفع وإنما الآيات تكون أحسن وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي ما ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره في الآيات آيات القرآن مثل قوله قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين ثلاثة اقوال قال في معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها أنها العلامة فمعنى آية علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها قال الشاعر ... ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما ...
وقال النابغة ... توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ...
قال وهذا اختيار أبي عبيد قلت أما أن الآية هي العلامة في اللغة فهذا صحيح وما استشهد به من الشعر يشهد لذلك وأما تسمية الآية من القرآن آية لأنها علامة صحيح لكن قول القائل إنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها ليس بطائل فإن هذا المعنى الحد والفصل فالآية مفصولة عما قبلها وعما بعدها وليس معنى كونها آية هو هذا وكيف وآخر الآيات آية مثل آخر سورة الناس وكذلك آخر آية من السورة وليس بعدها شيء وأول الآيات آية وليس قبلها شيء مثل أول آية من
النبوات [ جزء 1 - صفحة 189 ]
القرآن ومن السورة وإذا قرئت الآية وحدها كانت آية وليس معها غيرها وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح ان تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فهي آية في نفسها لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها وأيضا فكونه علامة على هذا الانقطاع قدر مشترك بين جميع الاشياء التي يتميز بعضها عن بعض ولا تسمى آيات والسورة متميزة عما قبلها وما بعدها وهي آيات كثيرة وأيضا فالكلام الذي قبلها منقطع وما قبلها آية فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه وأيضا فكيف يكون كونها آية علامة للتمييز بينها وبين غيرها والله سماها آياته فقال تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق والصواب أنها آية من آيات الله أي علامة من علاماته ودلالة من أدلة الله وبيان من بيانه فان كل آية قد بين فيها من أمره وخبره ما هي دليل عليه وعلامة عليه فهي آية من آياته وهي أيضا دالة على كلام الله المباين لكلام المخلوقين فهي دلالة على الله سبحانه وعلى ما أرسل بها رسوله ولما كانت كل آية مفصولة بمقاطع الآي التي يختم بها كل آية صارت كل جملة مفصولة بمقاطع الآي آية ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على رءوس الآي كما نعتت قراءته الحمد لله رب العالمين ويقف الرحمن الرحيم ويقف مالك يوم الدين ويقف ويسمى أصحاب الوقف وقف السنة لأن كل آية لها فصل ومقطع تتميز به عن الاخرى قال والوجه الثاني أنها سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه قال أبو عمر الشيباني يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم وأنشدوا ... خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا ...
قلت هذا فيه نظر فإن قولهم خرج القوم بآيتهم قد يراد به بالعلامة التي تجمعهم مثل الراية واللواء فإن العادة أن كل قوم لهم أمير تكون له آية يعرفون بها فاذا أخرج الامير آيتهم اجتمعوا اليه ولهذا سمى ذلك علما والعلم هي العلامة والآية ويسمى راية لانه يرى فخروجهم بآيتهم أي بالعلم والآية التي تجمعهم فيستدل به على خروجهم جميعهم فإن الامير المطاع اذا خرج لم يتخلف أحد
النبوات [ جزء 1 - صفحة 190 ]
بخلاف ما اذا خرج بعض أمرائه وإلا فلفظ الآية هي العلامة وهذا معلوم بالاضطرار من اللغة والاشتراك في اللفظ لا يثبت بأمر محتمل قال والثالث أنها سميت آية لانها عجب وذلك أن قارئها يستدل اذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين وهذا كما يقول فلان آية من الآيات أي عجب من العجائب ذكره ابن الأنباري قلت هذا القول هو داخل في معنى كونها آية من آيات الله فإن آيات الله كلها عجيبة فإنها خارجة عن قدرة البشر وعما قد يشبه بها من مقدور البشر والقرآن كله عجب تعجبت به الجن كما حكى عنهم تعالى انهم قالوا انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فإنه كلام خارج عن المعهود من الكلام وهو كما في الحديث لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد وكل آية لله خرجت عن المعتاد فهي عجب كما قال تعالى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا فالآيات العلامات والدلالة ومنها مألوف معتاد ومنها خارج عن المألوف المعتاد وآيات القرآن من هذا الباب فالقرآن عجب لا لأن مسمى الآية هو مسمى العجب بل مسمى الآية أعم ولهذا قال كانوا من آياتنا عجبا ولكن لفظ الآية قد يخص في العرف بما يحدثه الله وإنها غير المعتاد دائما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وانهما لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده وقد قال تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات الا تخويفا وفي الحديث الصحيح لما دخلت أسماء على عائشة وهي في الصلاة فسألتها فقالت سبحان الله فقالت آية فأشارت أي نعم وتسمى صلاة الكسوف صلاة الآيات وهي مشروعة في أحد القولين في مذهب أحمد في جميع الآيات التي يحصل بها التخويف كانتثار الكواكب والظلمة الشديدة وتصلى للزلزلة نص عليه كما جاء الأثر بذلك فهذه الآيات أخص من مطلق الآيات وقد قال تعالى وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث آيات يتعلمهن خير له من ثلاث خلفات سمان
النبوات [ جزء 1 - صفحة 191 ]
فصل والدليل الذي هو الآية والعلامة ينقسم إلى ما يدل بنفسه وإلى ما يدل بدلالة الدال به فيكون الدليل ف
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات