السبت، 7 يونيو 2014

كتاب النبوات، قال ابن تيمية : فصل وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته وعلى من أنكر حكمته

كتاب النبوات،
قال ابن تيمية :
فصل وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته وعلى من أنكر حكمته فأول ما أنزل الله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم فذكر أنه الأكرم وهو أبلغ من الكريم وهو المحسن غاية الاحسان ومن كرمه أنه علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم فعلمه العلوم بقلبه والتعبير عنها بلسانه وأن يكتب ذلك بالقلم فذكر التعليم بالقلم يتناول علم العبارة والنطق وعبارة المعاني والعلوم فإذا كان قد علمه هذه العلوم فكيف يمتنع عليه أن يعلمه ما يأمره به وما يخبره به وبيان ذلك أنه قال في أول السورة اقرأ باسم بك الذي خلق خلق الانسان من علق ومعلوم أن من رأى العلقة قطعة من دم فقيل له هذه العلقة يصير منها انسان بعلم كذا


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 175 ]  


وكذا لكان يتعجب من هذا غاية التعجب وينكره أعظم الانكار ومعلوم أن نقل الانسان من كونه علقة إلى أن يصير انسانا عالما قادرا كاتبا أعظم من جعل مثل هذا الانسان يعلم ما أمر الله به وما أخبر به فمن قدر على أن ينقله من الصغر إلى أن يجعله عالما قارئا كاتبا كان أن يقدر على جعله عالما بما أمر به وبما أخبر به أولى وأحرى وهذا كما استدل على قدرته على اعادة الخلق بقدرته على الابتداء وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من التوحيد ومن النبوة ومن المعاد فقال تعالى والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا أن هذا لشيء عجاب فذكر تعجبهم من التوحيد والنبوة وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم وهذا أيضا تعجب من أن أرسل اليهم رجل منهم وقوله أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس دل على أنه منذر لجنس الناس وأنه من جنس الناس لا يختص به العرب دون غيرهم وان كان أول ما أرسل اليهم وبلسانهم وقال تعالى ق والقران المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد وقال تعالى وان تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون فالرسول كان يعجب من تكذيبهم لما جاءهم به من آيات الانبياء وهم يعجبون مما جاء به لكونه خارجا عما اعتادوه من النظائر فإنهم لم يعرفوا قبل مجيئه لا توحيدا ولا نبوة ولا معادا قال قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون وأما حكمته في إرسال بشر فقد ذكر أنه من جنسهم وأنه بلسانهم فهو أتم في الحكمة والرحمة وذكر أنهم لا يمكنهم


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 176 ]  


الأخذ عن الملك وأنه لو نزل ملكا لكان يجعله في صورة بشر ليأخذوا عنه ولهذا لم يكن البشر يرون الملائكة إلا في صورة الآدميين كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي وكما أتى مرة في صورة أعرابي ولما جاءوا ابراهيم وامرأته حاضرة كانوا في صورة بشر وبشروها باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما قدرته على تعريف الخلق بأنه نبيه فكما تقدم فإنه إذا كان قادرا على أن يهدي الانسان الذي كان علقة ومضغة إلى أنواع العلوم بأنواع من الطرق انعاما عليه وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته ورحمته ما فيه فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله اليه وهذا أعظم النعم عليه والاحسان اليه والتعريف بهذا دون تعريف الانسان ما عرفه به من أنواع العلوم فإنه إذا كان هداهم إلى ان يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله اليه بشر مثله بعلامات يأتي بها الرسول وان كان لم تتقدم مواطأة وموافقة بين المرسل والمرسل اليهم فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولا بعلامة ويعلم المرسل إليه أنها علامة تدل على صدقه قطعا فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولا ويجعل معه علامات يعرف بها عباده أنه قد أرسله وهذا كمن جعل غيره قديرا عليما حكيما فهو أولى أن يكون قديرا عليما حكيما فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسل صدق رسوله فمن هدى العباد الى هذا فهو أقدر على أن يعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم بينهم وبينه مواطأة
وللناس طرق في دلالة المعجزة على صدق الرسول طريق الحكمة وطريق القدرة وطريق العلم والضرورة وطريق سنته وعادته التي بها يعرف أيضا ما يفعل وهو جنس المواطأة وطريق العدل وطريق الرحمة وكلها طرق صحيحة وكلما كان الناس إلى الشيء أحوج كان الرب به أجود وكذلك كلما كانوا إلى بعض العلم أحوج كان به أجود فإنه سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم وهو الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 177 ]  


هدى فكيف لا يقدر أن يهدي عباده إلى أن يعلمون أن هذا رسوله وأن ما جاء به من الآيات آية من الله وهي شهادة من الله له بصدقه وكيف تقتضي حكمته أن يسوي بين الصادق والكاذب فيؤيد الكاذب من آيات الصدق بمثل ما يؤيد به الصادق حتى لا يعرف هذا من هذا وأن يرسل رسولا يأمر الخلق بالايمان به وطاعته ولا يجعل لهم طريقا إلى معرفة صدقه وهذا كتكليفهم بما لا يقدرون عليه ومالا يقدرون على أن يعلموه وهذا ممتنع في صفة الرب وهو منزه عنه سبحانه فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد علم من سنته وعادته أنه لا يؤيد الكذاب بمثل ما أيد به الصادق قط بل لا بد أن يفضحه ولا ينصره بل لا بد أن يهلكه وإذا نصر ملكا ظالما مسلطا فهو لم يدع النبوة ولا كذب عليه بل هو ظالم سلطه على ظالم كما قال تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بخلاف من قال انه أرسله فهذا لا يؤيده تأييدا مستمرا الا مع الصدق لكنه قد يمهله مدة ثم يهلكه كما فعل بمن كذب الرسل أنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ولفظ النبي كلفظ الرسول هو في الأصل إنما قيل مضافا الى الله فيقال رسول الله ثم عرف باللام فكانت اللام تعاقب الإضافة كقوله فارسلنا الى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول وقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منهم لو اذا وكذلك اسم النبي يقال نبي الله كما قال فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ان كنتم مؤمنين وقيل لهم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فتقولون يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله ورسول فعول بمعنى مفعول أي مرسل فرسول الله الذي أرسله الله فكذلك نبي الله هو بمعنى مفعول أي منبأ الله الذي نبأه الله وهذا أجود من أن يقال انه بمعنى فاعل أي منبئ فانه إذا نبأه الله فهو نبي الله سواء أنبأ بذلك غيره أو لم ينبئه فالذي صار به النبي نبيا أن ينبئه الله وهذا مما يبين ما امتاز به عن غيره فإنه إذا كان الذي ينبئه الله كما أن الرسول هو الذي يرسله الله فما نبأ الله حق وصدق ليس فيه كذب لا خطأ ولا عمدا وما يوحيه الشيطان هو من إيحائه ليس


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 178 ]  


من إنباء الله فالذي اصطفاه الله لانبائه وجعله نبيا له كالذي اصطفاه لرسالته وجعله رسولا له فكما أن رسول الله لا يكون رسولا لغيره فلا يقبل أمر غير الله فكذلك نبي الله لا يكون نبيا لغر الله فلا يقبل أنباء أحد إلا أنباء الله واذا أخبر بما أنبأ الله وجب الايمان به فإنه صادق مصدوق ليس في شيء مما أنبأه الله به شيء من وحي الشيطان وهذا بخلاف غير النبي فإنه وإن كان قد يلهم ويحدث ويوحى اليه أشياء من الله ويكون حقا فقد يلقي اليه الشيطان أشياء ويشتبه هذا بهذا فإنه ليس نبيا لله كما أن الذي يأمر بطاعة الله غير الرسول وإن كان أكثر ما يأمر به هو طاعة الله فقد يغلط ويأمر بغير طاعة الله بخلاف الرسول المبلغ عن الله فإنه لا يأمر الا بطاعة الله قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله فنبي الله هو الذي ينبئه الله لا غيره ولهذا أوجب الله الايمان بما أوتيه النبيون فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم والآخر والملائكة والكتاب والنبيين وليس كل ما أوحي اليه الوحي العام يكون نبيا فإنه قد يوحي الى غير الناس قال تعالى وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وقال تعالى وأوحي في كل سماء أمرها وقال تعالى عن يوسف وهو صغير فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا اليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وقال تعالى وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه وقال تعالى وإذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وقوله وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا يتناول وحي الانبياء وغيرهم كالمحدثين الملهمين كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 179 ]  


في الامم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر منهم وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه فهؤلاء المحدثون الملهمون المخاطبون يوحى اليهم هذا الحديث الذي هو لهم خطاب وإلهام وليسوا بأنبياء معصومين مصدقين في كل ما يقع لهم فإنه قد يوسوس لهم الشيطان بأشياء لا تكون من ايحاء الرب بل من ايحاء الشيطان وإنما يحصل الفرقان بما جاءت به الانبياء فهم الذين يفرقون بين وحي الرحمن ووحي الشيطان فإن الشياطين أعداؤهم وهم يوحون بخلاف وحي الانبياء قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقال تعالى وان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون وقد غلط في النبوة طوائف غير الذين كذبوا بها إما ظاهرا وباطنا وإما باطنا كالمنافق المحض بل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الى الرسول وإلى من قبله وهم خلق كثير فيهم شعبة نفاق وان لم يكونوا مكذبين للرسول من كل وجه بل قد يعظمونه بقلوبهم ويعتقدون وجوب طاعته في أمور دون أمور وأبعد هؤلاء عن النبوة المتفلسفة والباطنية والملاحدة فإن هؤلاء لم يعرفوا النبوة الا من جهة القدر المشترك بين بني آدم وهو المنام وليس في كلام أرسطو وأتباعه كلام في النبوة والفارابي جعلها من جنس المنامات فقط ولهذا يفضل هو وأمثاله الفيلسوف على النبي وابن سينا عظمها أكثر من ذلك فجعل للنبي ثلاث خصائص أحدها أن ينال العلم بلا تعلم ويسميها القوة القدسية وهي القوة الحدسية عنده والثاني أن يتخيل في نفسه ما يعلمه فيرى في نفسه صورا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا كما يرى النائم في نومه صورا تكلمه ويسمع كلامهم وذلك موجود في نفسه لا في الخارج فهكذا عند هؤلاء جميع ما يختص به النبي مما يراه ويسمعه دون الحاضرين انما يراه في نفسه ويسمعه في نفسه وكذلك الممرور عندهم والثالث أن يكون له قوة يتصرف بها في هيولي العالم باحداث أمور غريبة وهي عندهم آيات الانبياء وعندهم ليس في العالم حادث الا عن قوة نفسانية أو ملكية أو طبعية كالنفس الفلكية والانسانية والأشكال الفلكية والطبائع التي للعناصر


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 180 ]  


الاربعة والمولدات لا يقرون بأن فوق الفلك نفسه شيء يفعل ويحدث شيئا فلا يتكلم ولا يتحرك بوجه من الوجوه لا ملك ولا غير ملك فضلا عن رب العالم والعقول التي يثبتونها عندهم ليس فيها تحول من حال الى حال البتة لا بارادة ولا قول ولا عمل ولا غير ذلك وكذلك المبدأ الاول وهؤلاء عندهم جميع ما يحصل في نفوس الانبياء إنما هو من فيض العقل الفعال ثم انهم لما سمعوا كلام الانبياء أرادوا الجمع بينه وبين أقوالهم فصاروا يأخذون ألفاظ الانبياء فيضعونها على معانيهم ويسمون تلك المعاني الالفاظ المنقولة عن الانبياء ثم يتكلمون ويصفون الكتب بتلك الالفاظ المأخوذة عن الانبياء فيظن من لم يعرف مراد الانبياء ومرادهم أنهم عنوا بها ما عنته الانبياء وضل بذلك طوائف وهذا موجود في كلام ابن سينا ومن أخذ عنه وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم تعريفا بمذهبهم وربما حذر عنه ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها وفي غير ذلك حتى في كتابه الاحياء يقول الملك والملكوت والجبروت ومقصوده الجسم والنفس والعقل الذي أثبتته الفلاسفة ويذكر اللوح المحفوظ ومراده به النفس الفلكية الى غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهو في التهافت وغيره يكفرهم وفي المضنون به يذكر ما هو حقيقة مذهبهم حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه وكذلك في الإلهيات وهذه الصفات الثلاث التي جعلوها خاصة الانبياء توجد لعموم الناس بل توجد لكثير من الكفار من المشركين وأهل الكتاب فإنه قد يكون لاحدهم من العلم والعبادة ما يتميز به على غيره من الكفار ويحصل له بذلك حدس وفراسة يكون أفضل من غيره وأما التخييل في نفسه فهذا حاصل لجميع الناس الذين يرون في مناماتهم ما يرون لكن هو يقول أن خاصة النبي أن يحصل له في اليقظة ما حصل لغيره في المنام وهذا موجود لكثير من الناس قد يحصل له في اليقظة ما يحصل لغيره في المنام ويكفيك أنهم جعلوا مثل هذا يحصل للممرور وللساحر ولكن قالوا الساحر قصده فاسد والممرور ناقص العقل فجعلوا ما يحصل للانبياء من جنس ما يحصل للمجانين والسحرة وهذا قول الكفار في الانبياء كما قال تعالى وكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 181 ]  


قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وهؤلاء عندهم ما يحصل للنبي من المكاشفة والخطاب هو من جنس ما يحصل للساحر والمجنون لكن الفرق بينه وبين الساحر أنه يأمر بالخير وذاك يأمر بالشر والمجنون ماله عقل وهذا القدر الذي فرقوا به موجود في عامة الناس فلم يكن عندهم للانبياء مزية على السحرة والمجانين الا ما يشاركهم فيه عموم المؤمنين وكذلك ما أثبتوه من القوة الفعالة المتصرفة هي عندهم تحصل للساحر وغيره وذلك أنهم لا يعرفون الجن والشياطين وقد أخبروا بأمور عجيبة في العالم فأحالوا ذلك على قوة نفس الانسان فما يأتي به الانبياء من الآيات والسحرة والكهان وما يخبر به المصروع والممرور هو عندهم كله من قوة نفس الانسان فالخبر بالغيب هو لاتصالها بالنفس الفلكية ويسمونها اللوح المحفوظ والتصرف هو بالقوة النفسانية وهذا حذق ابن سينا وتصرفه لما أخبر بأمور في العالم غريبة لم يمكنه التكذيب بها فاراد اخراجها على أصولهم وصرح بذلك في إشارته وقال هذه الامور لم نثبتها ابتداء بل لما تحققنا أن في العالم أمورا من هذا الجنس أردنا أن نبين أسبابها وأما أرسطو وأتباعه فلم يعرفوا هذه الامور الغريبة ولم يتكلموا عليها ولا على آيات الانبياء ولكن كان السحر موجودا فيهم وهؤلاء من أبعد الامم عن العلوم الكلية والالهية فان حدوث هذه الغرائب من الجن واقترانهم بالسحرة والكهان مما قد عرفة عامة الامم وذكروه في كتبهم غير العرب مثل الهند والترك وغيرهم من المشركين وعباد الاصنام وأصحاب الطلاسم والعزائم وعرفوا أن كثيرا من هذه الخوارق هو من الجن والشياطين وهؤلاء الجهال لم يعرفوا ذلك ولهذا كان من اصلهم أن النبوة مكتسبة وكان السهروردي المقتول يطلب أن يكون نبيا وكذلك ابن سبعين وغيره والنبوة الحق هي إنباء الله لعبده ونبي الله من كان الله هو الذي ينبئه ووحيه من الله وهؤلاء وحيهم من الشياطين فهم من جنس المتنبئين الكذابين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بل أولئك أحذق منهم فإنهم كانت تأتيهم أرواح فتكلمهم وتخبرهم بأمور غائبة وهي موجودة في الخارج لا في أنفسهم وهؤلاء لا يعرفون مثل هذا ووجود الجن والشياطين في الخارج وسماع كلامهم أكثر من أن يمكن سطر عشره هنا وكذلك صرعهم للانس وتكلمهم على


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 182 ]  


ألسنتهم والفرق بين النبي والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار والنبي يأتيه ملك كريم من عند الله ينبئه عن الله والساحر والكاهن انما معه شيطان يأمره ويخبره قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فلا الخبر كالخبر ولا الامر كالامر ولا مخبر هذا كمخبر هذا ولا آمر هذا كآمر هذا كما أنه ليس هذا مثل هذا ولهذا قال تعالى لما ذكر الذي جاء بالقرآن الى محمد وأنه ملك منفصل ليس خيالا في نفسه كما يقوله هؤلاء قال تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فاين تذهبون ان هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فالقرآن قول رسول أرسله الله لم يرسله الشيطان وهو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهو مطاع عند ذي العرش في الملأ الأعلى والشياطين لا يطاعون في السماوات بل ولا يصعدون اليها وابليس من حين أهبط منها لم يصعد اليها ولهذا كان أصح القولين أن جنة آدم جنة التكليف لم تكن في السماء فإن إبليس دخل الى جنة التكليف جنة آدم بعد إهباطه من السماء وقول الله له فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي الى يوم الدين وقوله قال فاخرج منها مذموما مدحورا لكن كانت في مكان عال في الارض من ناحية المشرق ثم لما أكل من الشجرة أهبط منها الى الأرض كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع ولفظ الجنة في غير موضع من القرآن يراد به بستان في الارض كقوله انا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة وقوله واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الى قوله كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا الى قوله ودخل جنته وهو ظالم لنفسه وقوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية الى قوله أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية وقوله تعالى لقد كان لسبأ في


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 183 ]  


مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال الى قوله وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله كم تركوا من جنات وعيون الآية وقوله أتتركون فيما ههنا آمنين في جنات وعيون وجنة الجزاء والثواب التي في السماء لم يدخلها الشيطان بعد أن أهبط من السماء وهو أهبط من السماء لما امتنع من السجود لآدم قبل أن يدخل آدم الى جنة التكليف التي وسوس له وأخرجه منها وجنة الجزاء مخلوقة أيضا وقد أنكر بعض أهل البدع أن تكون مخلوقة وقال ان آدم لم يدخلها لكونها لم تخلق بعد فأنكر ذلك من أنكره من علماء السنة وقد ذكر أبو العالية وغيره من السلف أن الشجرة التي نهي عنها آدم كان لها غائط فلما أكل احتاج الى الغائط وجنة الجزاء ليس فيها هذا لكن الله أعلم بصحة هذا النقل وإنما المقصود أن بعض السلف كان يقول إنها في السماء وبعضهم يقول إنها في مكان عال من الارض ولفظ الجنة في القرآن قد ذكر فيما شاء الله من المواضع وأريد به جنة في الارض وجنة الجزاء مخصوصة بمماتهم كقوله قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فإن أرواح المؤمنين تدخل الجنة من حين الموت كما في هذه الآية قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين قال تعالى وما أنزلنا على قومه بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فاذا هم خامدون وقال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال تعالى لما ذكر أحوال الموتى عند الموت فأما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما ان كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم وهذا غير ما ذكره في أول السورة من انقسامهم يوم القيامة الكبرى الى سابقين وأصحاب يمين ومكذبين فانه سبحانه ذكر في أول السورة انقسامهم يوم القيامة الكبرى وذكر في آخرها انقسامهم عند الموت وهو القيامة الصغرى كما قال المغيرة بن شعبة من مات فقد قامت قيامته وكذلك قال علقمة وسعيد بن جبير عن ميت أما هذا فقد قامت


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 184 ]  


قيامته أي صار الى الجنة أو النار وإن كان بعد هذا تعاد الروح الى البدن ويقعد بقبره ومقصودهم أن الشخص لا يستبطئ الثواب والعقاب فهو اذا مات يكون في الجنة أو في النار قال تعالى عن قوم نوح مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا وقال عن آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون اشد العذاب وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فهؤلاء المتفلسفة ما قدروا النبوة حق قدرها وقد ضل بهم طوائف من المتصوفة المدعين للتحقيق وغيرهم وابن عربي وابن سبعين ضلوا بهم فانهم اعتقدوا مذهبهم وتصوفوا عليه ولهذا يقول ابن عربي ان الاولياء أفضل من الانبياء وسائر الاولياء يأخذون عن خاتم الانبياء علم التوحيد وإنه هو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به الى الرسول فإن الملك عنده هو الخيال الذي في النفس وهو جبريل عندهم وذلك الخيال تابع للعقل فالنبي عندهم يأخذ عن هذا الخيال ما يسمعه من الصوت في نفسه ولهذا يقولون أن موسى كلم من سماء عقله والصوت الذي سمعه كان في نفسه لا في الخارج ويدعي أحدهم أنه أفضل من موسى وكما ادعى ابن عربي أنه أفضل من محمد فانه يأخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال والخيال عنده هو الملك الذي يأخذ منه النبي فلهذا قال فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به الى النبي قال فإن عرفت هذا فقد حصل لك العلم النافع وبسط الكلام على هؤلاء له مواضع أخر والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك الى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله اليه فهو رسول وأما اذا كان انما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو الى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا اذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته وقوله من رسول ولا نبي فذكر ارسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فان هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته الى من خالف الله كنوح وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث الى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيت وإدريس


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 185 ]  


وقبلهما آدم كان نبيا مكلما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام فأولئك الانبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول وكذلك أنبياء بني اسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى الى أحدهم وحي خاص في قصة معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود فالانبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره وبنهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر والامر والنهي فإن أرسلوا الى كفار يدعونهم الى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ولا بد أن يكذب الرسل قوم قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون وقال ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك فان الرسل ترسل الى مخالفين فيكذبهم بعضهم وقال وما أرسلنا من قبلم إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى اذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد فقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الاطلاق لانه لم يرسل الى قوم بما لا يعرفونه بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الانبياء وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فان يوسف كان رسولا وكان على ملة ابراهيم وداود وسليمان كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى اذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا وقال تعالى انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده وأوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 186 ]  


وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة وإرسال الرياح وإرسال الشياطين وإرسال النار قال تعالى يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس وقال تعالى جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهنا جعل الملائكة كلهم رسلا والملك في اللغة هو حامل الألوكة وهي الرسالة وقد قال في موضع آخر الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي كما قال وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وقال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين توزهم أزا لكن الرسول المضاف الى الله اذا قيل رسول الله فهم من يأتي برسالة الله من الملائكة والبشر كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وقالت الملائكة يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا اليك وأما عموم الملائكة والرياح والجن فإن إرسالها لتفعل فعلا لا لتبلغ رسالة قال تعالى اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هم رسل الله عند الاطلاق وأما من أرسله الله ليفعل فعلا بمشيئة الله وقدرته فهذا عام يتناول كل الخلق كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته لكن أهل الايمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه ويعبدونه وحده ويطيعون رسله والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لامره متبعون لما يسخطه وان كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته وهذا كلفظ البعث يتناول البعث الشرعي كما قال هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم ويتناول البعث العام الكوني كقوله فاذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقال تعالى واذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب فالعام بحكم مشيئته وقدرته والخاص هو أيضا بحكم مشيئته وقدرته


 النبوات    [ جزء 1 - صفحة 187 ]  


وهو مع ذلك بحكم أمره ورضاه ومحبته وصاحب الخاص من أولياء الله يكرمه ويثبته وأما من خالف أمره فإنه يستحق العقوبة ولو كان فاعلا بحكم المشيئة فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحتج بالمشيئة على المعاصي الا من تكون حجته داحضة ويكون متناقضا متبعا لهواه ليس عنده علم بما هو عليه كالمشركين الذين قالوا ولو شاء الله ما أشركنا ولا آبانا ولا حرمنا من شيء كما قد بسط في غير هذا الموضع والله أعلم
فصل الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم فإنه لو كان تارة يتحقق مع وجود المدلول عليه وت









المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
  >> عدد الأجزاء= 1  <<
النبوات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق