كتاب النبوات، قال ابن تيمية :
فصل وحقيقة الأمر أن ما يدل على النبوة هو آية على النبوة وبرهان عليها فلا بد أن يكون مختصا بها لا يكون مشتركا بين الأنبياء وغيرهم فإن الدليل هو مستلزم لمدلوله لا يجب أن يكون أعم وجودا منه بل إما أن يكون مساويا له في العموم والخصوص أو يكون أخص منه وحينئذ فآية النبي لا تكون لغير الأنبياء
النبوات [ جزء 1 - صفحة 13 ]
لكن إذا كانت معتادة لكل نبي أو لكثير من الانبياء لم يقدح هذا فيها فلا يضرها أن تكون معتادة للأنبياء وكون الآية خارقة للعادة أو غير خارقة هو وصف لم يصفه القرآن والحديث ولا السلف وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا وصف لا ينضبط وهو عديم التأثير فإن نفس النبوة معتادة للأنبياء خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم إن كون الشخص يخبره الله بالغيب خبرا معصوما هذا مختص بهم وليس هذا موجودا لغيرهم فضلا عن كونه معتادا فآية النبي لا بد أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها ليست معتادة للآدميين وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة وبهذا احتجوا على أنه لا بد أن تكون خارقة للعادة لكن ليس في هذا ما يدل على أن كل خارق آية فالكهانة والسحر هو معتاد للسحرة والكهان وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف تعجب الناس إذا كانوا لا يعرفون طريقه فليس في هذا ما يختص بالنبي وكذلك قراءة القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم صارت مشتركة بين النبي وغيره وأما نفس الإبتداء به فهو مختص بالنبي وكذلك ما يرويه من أنباء الغيب عن الأنبياء لما صار مشتركا بين النبي وغيره لم يبق آية بخلاف الابتداء فالكهانة مثلا وهو الإخبار ببعض الغائبات عن الجن أمر معروف عند الناس وأرض العرب كانت مملوءة من الكهان وإنما ذهب ذلك بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يكثرون في كل موضع نقص فيه أمر النبوة فهم كثيرون في أرض عباد الأصنام ويوجدون كثيرا عند النصارى ويوجدون كثيرا في بلاد المسلمين حيث نقص العلم والإيمان بما جاء به الرسول لأن هؤلاء أعداء الأنبياء والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فهؤلاء لا بد أن يكون في أحدهم كذب وفجور وذلك يناقض النبوة فمن ادعى النبوة وأخبر بغيوب من جنس أخبار الكهان كان ما أخبر به خرقا للعادة عند أولئك القوم لكن ليس خرقا لعادة جنسه من الكهان وهم إذا جعلوا ذلك آية لنبوته كان ذلك لجهلهم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 14 ]
بوجود هذا الجنس لغير الأنبياء كالذين صدقوا مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء من المتنبئين الكذابين وكان هؤلاء يأتون بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس بنبي فمن صدقهم ظن أن هذا مختص بالأنبياء وكان ذلك من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء كما أنهم كانوا يأتون بأمور تناقض النبوة ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يعارضها من ليس بنبي فكل من عارضها صادرا ممن ليس من جنس الأنبياء فليس من أياتهم ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى لما ادعى أنه ساحر فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم فلما أتت وابتلعتها العصا التي صارت حية علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم فآمنوا إيمانا جازما ولما قال لهم فرعون لأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فكان من تمام علمهم بالسحر أن السحر معتاد لأمثالهم وأن هذا ليس من هذا الجنس بل هذا مختص بمثل هذا فدل على صدق دعواه وفرعون وقومه بين معاند وجاهل استخفه فرعون كما قال تعالى فاستخف قومه فأطاعوه فاذا قيل لهم المعجزة هي الفعل الخارق للعادة أو قيل هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي أو قيل مع ذلك الخارق للعادة السليم عن المعارضة فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا فإنه إن أريد به أنه لم يوجد له نظير في العالم فهذا باطل فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض بل النوع الواحد منه كاحياء الموتى وهو آية لغير واحد من الأنبياء وإن قيل إن بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها كالقرآن والعصا والناقة لم يلزم ذلك في سائر الآيات ثم هب أنه لا نظير لها في نوعها لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا فنفس خوارق العادات معتاد جميعه للأنبياء بل هو من لوازم نبوتهم مع كون الأنبياء كثيرين وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي وما يأتي به كل واحد من هؤلاء لا يكون معدوم النظير في العالم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 15 ]
بل ربما كان نظيره وإن عني بكون المعجزة هي الخارقة للعادة أنها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك فهذا ليس بحجة فإن أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة والسحر ونحو ذلك وقد يكون المخاطبون بالنبوة ليس فيهم هؤلاء كما كان أتباع مسيلمة والعنسي وأمثالهما لا يقدرون على ما يقدر عليه هؤلاء والمبرز في فن من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه وليس هذا دليلا على النبوة فكتاب سيبويه مثلا مما لا يقدر على مثله عامة الخلق وليس بمعجز إذ كان ليس مختصا بالأنبياء بل هو موجود لغيرهم وكذلك طب أبقراط بل وعلم العالم الكبير من علماء المسلمين خارج عن عادة الناس وليس هو دليلا على نبوته
وأيضا فكون الشيء معتادا هو مأخوذ من العود وهذا يختلف بحسب الأمور فالحائض المعتادة من الفقهاء من يقوم تثبت عادتها بمرة ومنهم من يقول بمرتين ومنهم من يقول لا تثبت إلا بثلاث وأهل كل بلد لهم عادات في طعامهم ولباسهم وأبنيتهم لم يعتدها غيرهم فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم لا لعادة من اعتاده من غيرهم فلهذا لم يكن في كلام الله ورسوله وسلف الامة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل فان هذا لا ضابط له وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم ولكن إذا قيل من شرطها أن تكون خارقة للعادة بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد ويعرفون أن الأمر المعتاد مثل الأكل والشرب والركوب والسفر وطلوع الشمس وغروبها ونزول المطر في وقته وظهور الثمرة في وقتها ليس دليلا ولا يدعي أحد أن مثل هذا دليل له فان فساد هذا ظاهر لكل أحد ولكن ليس مجرد كونه خارقا للعادة كافيا لوجهين أحدهما أن كون الشيء معتادا وغير معتاد أمر نسبي إضافي ليس بوصف مضبوط تتميز به الآية بل يعتاد هؤلاء مالم يعتد هؤلاء مثل كونه مألوفا ومجربا ومعروفا ونحو ذلك من الصفات الإضافية الثاني أن مجرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم وإذا خص ذلك بعدم المعارضة فقد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته ويكون معتادا لغيرهم كالكهانة والسحر وقد يأتي بما
النبوات [ جزء 1 - صفحة 16 ]
يمكن معارضته وليس بآية لشيء لكونه لم يختص بالأنبياء وقد يقال في طب أبقراط ونحو سيبويه إنه لا نظير له بل لا بد أن يقال إنه مختص بالأنبياء بل معروف أن هذا تعلم بعضه من غيره واستخرج سائره بنظره واذا خص الله طبيبا أو نحويا أو فقيها بما ميزه به على نظرائه لم يكن ذلك دليلا على نبوته وإن كان خارقا للعادة فان ما يقوله الواحد من هؤلاء قد علمه بسماع أو تجربة أو قياس وهي طرق معروفة لغير الأنبياء والنبي قد علمه الله من الغيب الذي عصمه الله فيه عن الخطأ ما لم يعلمه إلا نبي مثله فان قيل فحينئذ لا يعرف أن الآية مختصة بالنبي حتى تعرف النبوة قيل أما بعد وجود الأنبياء في العالم فهكذا هو ولهذا يبين الله عز وجل نبوة محمد في غير موضع باعتبارها بنبوة من قبله وتارة يبين أنه لم يرسل ملائكة بل رجالا من أهل القرى ليبين أن هذا معتاد معروف ليس هو أمرا لم تجر به عادة الرب كقوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون كما ذكره في سورة النحل والأنبياء وقال في يوسف وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من اهل القرى أفلم يسيروا في الأرص فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون فان الكفار كانوا يقولون إنما يرسل الله ملكا أو يرسل مع البشر ملكا كما قال فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال مشركو العرب لمحمد ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا نزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 17 ]
لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون بين أنهم لا يطيقون الأخذ عن الملائكة إن لم يأتوا في صورة البشر ولو جاءوا في صورة لبشر لحصل اللبس وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وكانت العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل فقال الله لهم فاسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون هل أرسل اليهم رجالا أو ملائكة ولهذا قال له قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل بين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال وهو سبحانه أمر أن يسأل أهل الكتاب وأهل الذكر عما عندهم من العلم في أمور الأنبياء هل هو من جنس ما جاء به محمد أو هو مخالف له ليتبين بإخبار أهل الكتاب المتواترة جنس ما جاءت به الأنبياء وحينئذ فيعرف قطعا أن محمدا نبي بل هو أحق بالنبوة من غيره والثاني أن يسألوهم عن خصوص محمد وذكره عندهم وهذا يعرفه الخاصة منهم ليس هو معروفا كالأول يعرفه كل كتابي قال تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وقوله شهد شاهد ليس المقصود شاهدا واحدا معينا بل ولا يحتم كونه واحدا وقول من قال إنه عبد الله بن سلام ليس بشيء فان هذه نزلت بمكة قبل أن يعرف إبن سلام ولكن المقصود جنس الشاهد كما تقول قام الدليل وهو الشاهد الذي يجب تصديقه سواء كان واحدا قد يقترن بخبره ما يدل على صدقه أو كان عددا يحصل بخبرهم العلم بما تقول فان خبرك بهذا صادق وقوله على مثله فان الشاهد من بني إسرائيل على مثل القرآن وهو أن الله بعث بشرا وأنزل عليه كتابا أمر فيه بعبادة الله وحده لا شريك له ونهى فيه عن عبادة ما سواه واخبر فيه أنه خلق هذا العالم وحده وأمثال ذلك وقد ذكر في أول هذه السورة التوحيد وبين أن المشركين ليس معهم على الشرك لا دليل عقلي ولا سمعي فقال تعالى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون
النبوات [ جزء 1 - صفحة 18 ]
من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم أن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله الى آخره ومثل ذلك قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فمن عنده علم الكتاب شهد بما في الكتاب الأول وهو يوجب تصديق الرسول لانه يشهد بالمثل ويشهد أيضا بالعين وكل من الشهادتين كافية فمتى ثبت الجنس علم قطعا أن العين منه وقال تعالى فان كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين وهذا سواء كان خطابا للرسول والمراد به غيره أو خطابا له وهو لغيره بطريق الأولى والمقدر قد يكون معدوما أو ممتنعا وهو بحرف ان كقوله قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين و إن كنت قلته فقد علمته والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير إن كنت قلته فانت عالم به وبما في نفسي وإن كان له ولد فأنا عابده وان كنت شاكا فاسأل ان قدر امكان ذلك فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله اذا أخبروا فما عندهم شاهد له ودليل وحجة ولهذا نهى بعد ذلك عن الإمتراء والتكذيب وأما تقدير الممتنع بحرف ان فكثير ومن ذلك قوله فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية فإن كان لكم كيد فكيدون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 19 ]
براهانكم إن كنتم صادقين وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقد قال تعالى أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقال تعالى ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا وهذا كله في السور المكية والمقصود الجنس فاذا شهد جنس هؤلاء مع العلم بصدقهم حصل المطلوب لا يقف العلم على شهادة كل واحد واحد فان هذا متعذر ومن أنكر أو قال لا أعلم لم يضر إنكاره وإن قال بل أعلم عدم ما شهدوا به علم افتراؤه في الجنس وعلم في الشخص اذ كان لم يحط علما بجميع نسخ الكتب المتقدمة وما في النبوات كلها فلا سبيل لأحد من أهل الكتاب أن يعلم انتفاء ذكر محمد في كل نسخة نسخة بكل كتاب من كتب الأنبياء إذ العلم بذلك متعذر ثم هذه النسخ الموجود فيها ذكره في مواضع كثيرة قد ذكر قطعة منها في غير هذا الموضع ومما ينبغي أن يعلم أن أعظم ما كان عليه المشركون قبل محمد وفي مبعثه هو دعوى الشريك لله والولد والقرآن مملوء من تنزيه الله عن هذين وتنزيهه عن المثل والولد يجمع كل التنزيه فهذا في سورة الإخلاص وفي سورة الأنعام في مثل قوله وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وفي سورة سبحان وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وفي سورة الكهف في أولها وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وفي آخرها افحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي مريم تنزيهه عن الولد في أول السورة وآخرها ظاهر وعن الشريك في مثل قصة
النبوات [ جزء 1 - صفحة 20 ]
إبراهيم وفي تنزيل وغير ذلك وفي الأنبياء تنزيهه عن الشريك والولد وكذلك في المؤمنين ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وأول الفرقان الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وأما طه والشعراء مما بسط فيه قصة موسى فالمقصود الأعظم بقصة موسى إثبات الصانع ورسالته إذ كان فرعون منكرا ولهذا عظم ذكرها في القرآن بخلاف قصة غيره فإن فيها الرد على المشركين المقرين بالصانع ومن جعل له ولدا من المشركين وأهل الكتاب ومذهب الفلاسفة الملحدة دائر بين التعطيل وبين الشرك والولادة كما يقولونه في الإيجاب الذاتي فانه أحد أنواع الولادة وهم ينكرون معاد الأبدان وقد قرن بين هذا وهذا في الكتاب والسنة في مثل قوله ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا إلى قوله وقالوا إتخذ الرحمن ولدا وهذه في سورة مريم المتضمنة خطاب النصارى ومشركي العرب لأن الفلاسفة داخلون فيهم فإن اليونان اختلطوا بالروم فكان فيها خطاب هؤلاء وهؤلاء وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فاما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته رواه البخاري عن إبن عباس
ولما كان الشرك أكثر في بني آدم من القول بأن له ولدا كان تنزيهه عنه أكثر وكلاهما يقتضي إثبات مثل وند من بعض الوجوه فان الولد من جنس الوالد ونظير له وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر فيمتنع وجود قادر بنفسه فالذي جعل لله شريكا لو فرض مكافئا لزم إفتقار كل منهما وهو ممتنع وإن كان غير مكافئ فهو مقهور والولد يتخذ المتخذ لحاجته إلى معاونته له كما يتخذ المال فان الولد إذا اشتد أعان والده قال تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا الى قوله ان كل من في السموات والارض إلا آت الرحمن
النبوات [ جزء 1 - صفحة 21 ]
عبدا وقال تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون فان كون المخلوق مملوكا لخالقه وهو مفتقر اليه من كل وجه والخالق غني عنه يناقض اتخاذ الولد لانه انما يكون لحاجته اليه في حياته أو ليخلفه بعد موته والرب غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه وهو الحي الذي لا يموت والوالد في نفسه مفتقر الى ولد مخلوق لا حيلة له فيه بخلاف من يشتري المملوك فانه بإختياره ملكه ويمكنه إزالة ملكه فتعلقه به من جنس تعلقه بالاجانب والولادة بغير اختيار الوالد والرب يمتنع ان يحدث شيء بغير اختياره
واتخاذ الولد هو عوض عن الولادة لمن لم يحصل له فهو أنقص في الولادة ولهذا من قال بالإيجاب الذاتي بغير مشيئته وقدرته فقوله من جنس قول القائلين بالولادة الحاصلة بغير الاختيار بل قولهم شر من قول النصارى ومشركي العرب من بعض الوجوه كما قد بسط الكلام على هذا في تفسير قل هو الله أحد وغيره
والمقصود أن الله قال لمحمد قل ما كنت بدعا من الرسل وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فبين أن هذا الجنس من الناس معروف قد تقدم له نظراء وأمثال فهو معتاد في الآدميين وان كان قليلا فيهم وأما من جاءهم رسول ما يعرفون قبله رسولا كقوم نوح فهذا بمنزلة ما يبتدئه الله من الأمور وحينئذ فهو يأتي بما يختص به مما يعرفون أن الله صدقه في إرساله فهذا يدل على النوع والشخص وان كانت آيات غيره تدل على الشخص إذ النوع قد عرف قبل هذا فالمقصود أن آيته وبرهانه لا بد أن يكون مختصا بهذا النوع لا يجب أن يختص بواحد من النوع ولا يجوز أن يوجد لغير النوع وقد قلنا إن ما يأتي به أتباع الانبياء من ذلك هو مختص بالنوع فأنا نقول هذا لا يكون إلا لمن اتبع الأنبياء فصار مختصا بهم وأما ما يوجد لغير الانبياء وأتباعهم فهذا هو الذي لا يدل على النبوة كخوارق السحرة والكهان
وقد عرف الناس أن السحرة لهم خوارق ولهذا كانوا إذا طعنوا في نبوة نبي واعتقدوا علمه قالوا هو ساحر كما قال الملأ من قوم فرعون لموسى ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 22 ]
تأمرون وقال للسحرة لما آمنوا إنه لكبيركم الذي علمكم السحر و ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها كل هذا من كذب فرعون وكانوا يقولون يا أيها الساحر ادع لنا ربك وكذلك المسيح قال تعالى وإذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين وقال تعالى عن كفار العرب وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وان نسبوه إلى عدم العلم قالوا مجنون كما قالوا عن نوح مجنون وازدجر وقالوا عن موسى ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقال عن مشركي العرب وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون وقد قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فالسحر أمر معتاد في بني آدم كما أن النبوة معتادة في بني آدم والمجانين معتادون فيهم فاذا قالوا عن الشخص انه مجنون فانه يعلم هل هو من العقلاء أو من المجانين بنفس ما يقوله ويفعله وكذلك يعرف هل هو من جنس الانبياء أو من جنس السحرة وكذلك لما قالوا عن محمد انه شاعر فان الشعراء جنس معروفون في الناس وقالوا إنه كاهن وشبهة الشعر أن القرآن كلام موزون والشعر موزون وشبهة الكهانة أن الكاهن يخبر ببعض الامور الغائبة فذكر الله تعالى الفرق بين هذين وبين النبي فقال هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وقال وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين وقال تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولهذا لما عرض الكفار على كبيرهم الوحيد أن يقولوا للناس هو شاعر
النبوات [ جزء 1 - صفحة 23 ]
ومجنون وساحر وكاهن صار يبين لهم أن هذه أقوال فاسدة وأن الفرق معروف بينه وبين هذه الأجناس
فالمقصود أن هذه الأجناس كلها موجودة في الناس معتادة معروفة وكل واحد منها يعرف بخواصه المستلزمة له وتلك الخواص آيات له مستلزمة له فكذلك النبوة لها خواص مستلزمة لها تعرف بها وتلك الخواص خارقة لعادة غير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء فهي لا توجد لغيرهم فهذا هذا والله أعلم
فاذا أتى مدعي النبوة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبي لا يحصل مثله لساحر ولا كاهن ولا غيرهما كان دليلا على نبوته وكل من الساحر والكاهن يستعين بالشياطين فان الكهان تنزل عليهم الشياطين تخبرهم والسحرة تعلمهم الشياطين قال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر والساحر لا يتجاوز سحره الامور المقدورة للشياطين كما تقدم بيانه والساحر كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فهم يعلمون أن السحر لا ينفع في الآخرة ولا يقرب إلى الله وأن من اشتراه ماله في الآخرة من خلاق فإن مبناه على الشرك والكذب والظلم مقصود صاحبه الظلم والفواحش وهذا مما يعلم بصريح العقل أنه من السيئات فالنبي لا يأمر به ولا يعمله يستعين على ذلك صاحبه بالشرك والكذب وقد علم بصريح العقل مع ما تواتر عن الانبياء أنهم حرموا الشرك فمتى كان الرجل يأمر بالشرك وعبادة غير الله أو يستعين على مطالبه بهذا وبالكذب والفواحش والظلم علم قطعا أنه من جنس السحرة لا من جنس الانبياء وخوارق هذا يمكن معارضتها وإبطالها من بني جنسه وغير بني جنسه وخوارق الانبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها ولا يمكن أحدا إبطالها لا من جنسهم ولا من غير جنسهم فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا فلا يتصور أن نبيا يبطل معجزة آخر وإن أتى بنظيرها فهو يصدقه ومعجزة كل منهما آية له وللآخر أيضا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 24 ]
كما أن معجزات أتباعهم آيات لهم بخلاف خوارق السحرة فإنها إنما تدل على أن صاحبها ساحر يؤثر آثارا غريبة مما هو فساد في العالم ويسر بما يفعله من الشرك والكذب والظلم ويستعين على ذلك بالشياطين فمقصوده الظلم والفساد والنبي مقصوده العدل والصلاح وهذا يستعين بالشياطين وهذا بالملائكة وهذا يأمر بالتوحيد لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا إنما يستعين بالشرك وعبادة غير الله وهذا يعظم إبليس وجنوده وهذا يذم إبليس وجنوده والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الامم ولهذا قالت الامم المكذبة ولو شاء الله لأنزل ملائكة حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون قال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة وقال فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون وفرعون وإن كان مظهرا لجحد الصانع فإنه ما قال فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين إلا وقد سمع بذكر الملائكة إما معترفا بهم وإما منكرا لهم فذكر الملائكة والجن عام في الأمم وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم فلا بد في آيات الانبياء من أن تكون مع كونها خارقة للعادة أمرا غير معتاد لغير الانبياء بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الانبياء ليس مما يقدر عليه غير الانبياء لا بحيلة ولا عزيمة ولا استعانة بشياطين ولا غير ذلك ومن خصائص معجزات الانبياء أنه لا يمكن معارضتها فإذا عجز النوع البشري غير الانبياء عن معارضتها كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالانبياء بخلاف ما كان موجودا لغيرها فهذا لا يكون آية البتة فأصل هذا أن يعرف وجود الانبياء في العالم وخصائصهم كما يعلم وجود السحرة وخصائصهم ولهذا من لم يكن عارفا بالانبياء من فلاسفة اليونان والهند وغيرهم لم يكن له فيهم كلام يعرف كما لم يعرف لارسطو وأتباعه فيهم كلام يعرف بل غاية
النبوات [ جزء 1 - صفحة 25 ]
من أراد أن يتكلم في ذلك كالفارابي وغيره أن يجعلوا ذلك من جنس المنامات المعتادة ولما أراد طائفة كأبي حامد وغيره أن يقرروا إمكان النبوة على أصلهم احتجوا بأن مبدأ الطب ومبدأ النجوم ونحو ذلك كان من الانبياء لكون المعارف المعتادة لا تنهض بذلك وهذا إنما يدل على اختصاص من أتى بذلك بنوع من العلم وهذا لا ينكره عاقل وعلى هذا بنى ابن سينا أمر النبوة أنها من قوى النفس وقوى النفوس متفاوتة وكل هذا كلام من لا يعرف النبوة بل هو أجنبي عنها وهو أنقص ممن أراد أن يقرر أن في الدنيا فقهاء وأطباء وهو لم يعرف غير الشعراء فاستدل بوجود الشعراء على وجود الفقهاء والاطباء بل هذا المثال أقرب فإن بعد النبوة عن غير الانبياء أعظم من بعد الفقيه والطبيب عن الشاعر ولكن هؤلاء من أجهل الناس بالنبوة ورأوا ذكر الانبياء قد شاع فأرادوا تخريج ذلك على أصول قوم لم يعرفوا الانبياء
فان قيل موسى وغيره كانوا موجودين قبل أرسطو فان أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وأيضا فقد قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال إنا أرسلناك بالحق شيرا ونذيرا وان من أمة إلا خلا فيها نذير فهذا يبين أن كل أمة قد جاءها رسول فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل قلت عن هذا جوابان أحدهما أن كثيرا من هؤلاء لم يعرفوا الرسل كما قال ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم الثاني أنه قال تعالى تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم فاذا كان الشيطان قد زين لهم أعمالهم كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم فلم يعرفوها وأرسطو لم يأت إلى أرض الشام ويقال ان الذين كانوا قبله كانوا يعرفون الانبياء لكن المعرفة المجملة لا تنفع كمعرفة قريش كانوا قد سمعوا بموسى وعيسى وابراهيم سماعا من غير معرفة بأحوالهم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 26 ]
وأيضا فهم وأمثالهم المشاءون أدركوا الاسلام وهم من أكفر الناس بما جاءت به الرسل إما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم وما سمعوه حرفوه أو حملوه على أصولهم وكثير من المتفلسفة هم من هؤلاء فإذا كان هذا حال هؤلاء في ديار الاسلام فما الظن بمن كان ببلاد لا تعرف فيها شريعة نبي
بل طريق معرفة الانبياء كطريق معرفة نوع من الآدميين خصهم الله بخصائص يعرف ذلك من أخبارهم واستقراء أحوالهم كما يعرف الأطباء والفقهاء ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم من قصة نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وغيرهم فيذكر وجود هؤلاء وأن قوما صدقوهم وقوما كذبوهم ويبين حال من صدقهم وحال من كذبهم فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء ويتبين وجود آثارهم في الارض فمن لم يكن رأى في بلدة آثارهم فليسر في الارض ولينظر آثارهم وليسمع أخبارهم المتواترة يقول الله تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ولهذا قال مؤمن آل فرعون لما أراد إنذار قومه يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل والنجاشي وغيرهما القرآن قال ورقة بن نوفل هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة فكان عندهم علم بما جاء به موسى اعتبروا به ولولا ذلك لم يعلموا هذا وكذلك الجن لما سمعت القرآن ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 27 ]
لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد قال إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصا فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذرأم القرى ومن حولها فهو سبحانه يثبت وجود جنس الانبياء ابتداء كما في السور المكية حيث يثبت وجود هذا الجنس وسعادة من اتبعه وشقاء من خالفه ثم نبوة عين هذا النبي تكون ظاهرة لأن الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الانبياء فمن أقر بجنس الانبياء كان إقراره بنبوة محمد في غاية الظهور أبين مما أقر أن في الدنيا نحاة وأطباء وفقهاء فإذا رأى نحو سيبويه وطب أبقراط وفقه الأئمة الاربعة ونحوهم كان إقراره بذلك من أبين الامور ولهذا كان من نازع من اهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به وهو الغالب على عامتهم أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم والعرب عرفوا ما جاء به محمد فلما أقروا بجنس الانبياء لم يبق عندهم في محمد شك وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الانبياء يدل على نبوة محمد بطريق الاولى إذ كانوا من جنس واحد ونبوته أكمل فينبغي معرفة هذا فإنه أصل عظيم ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية فإنهم لما عرفوا نبوته وأنه لا بد من متابعته أو متابعة اليهود والنصارى عرفوا أن متابعته أولى ومن كان من أهل الكتاب بعضهم آمن به وبعضهم لم يؤمن جهلا وعنادا وهؤلاء كان عندهم كتاب ظنوا استغناءهم به فلم يستقرئوا أخبار محمد وما جاء به خالين من الهوى بخلاف من لم يكن له كتاب فإنه نظر في الأمرين نظر خال من الهوى فعرف فضل ما جاء به محمد على ما جاء به غيره ولهذا لا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين واليهود والنصارى إلا رجحت دين المسلمين كما يجري لأنواع الامم التي لا كتاب لها فأهل الكتاب مقرون بالجنس منازعون في العين والمتفلسفة من
النبوات [ جزء 1 - صفحة 28 ]
اليونان والهند منازعون في وجود كمال الجنس وإن أقروا ببعض صفات الانبياء فإنما أقروا منها بما لا يختص بالانبياء بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم فلم يؤمن هؤلاء بالانبياء البتة هذا هو الذي يجب القطع به ولهذا يذكرون معهم ذكر الجنس الخارج عن أتباعهم فيقال قالت الانبياء والفلاسفة واتفقت الانبياء والفلاسفة كما يقال المسلمون واليهود والنصارى وقال أيضا رضي الله عنه فصل ومن آياته نصر الرسل على قومهم
وهذا على وجهين تارة يكون بإهلاك الامم وإنجاء الرسل وأتباعهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى ولهذا يقرن الله بين هذه ا
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات