كتاب النبوات، قال ابن تيمية :
فصل ومن آياته نصر الرسل على قومهم
وهذا على وجهين تارة يكون بإهلاك الامم وإنجاء الرسل وأتباعهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سور الاعراف وهود والشعراء ولا يذكر معها قصة ابراهيم وإنما ذكر قصة ابراهيم في سورة الانبياء ومريم والعنكبوت والصافات فإن هذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الامم بل في سورة الانبياء كان المقصود ذكر الانبياء ولهذا سميت سورة الانبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وإن لم يذكر قومهم كما ذكر قصة داود وسليمان وايوب وذكر آخر الكل إن هذه أمتكم أمة واحدة وبدأ فيها بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر إكرامه للانبياء قبل محمد وابراهيم أكرمهم على الله تعالى وهو خير البرية وهو أبو أكثرهم إذ ليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله في سورة الانعام ومن ذريته داود وسليمان وأيوب وأما سورة مريم فذكر الله تعالى فيها انعامه على الانبياء المذكورين فيها فذكر فيها رحمته زكريا وهبته يحيى وأنه ورث نبوته وغيرها من علم آل يعقوب وأنه آتاه الحكم صبيا وذكر بدء خلق عيسى وما اعطاه الله تعالى من تعليم الكتاب وهو التوراة النبوة وأن الله تعالى جعله مباركا أينما كان وغير ذلك وذكر قصة ابراهيم وحسن خطابه لأبيه وأن الله تعالى وهبه اسحاق ويعقوب نبيين ووهبه من رحمته وجعل له لسان صدق عليا ثم ذكر موسى وأنه خصه الله تعالى بالتقريب والتكليم ووهبه أخاه وغير ذلك وذكر اسماعيل
النبوات [ جزء 1 - صفحة 29 ]
وأنه كان صادق الوعد وكأنه والله أعلم من ذلك أو أعظمه صدقه فيما وعد به أباه من صبره عند الذبح فوفى بذلك وذكر إدريس وأن الله تعالى رفعه مكانا عليا ثم قال أولئك الذين أنعم الله عليهم وأما سورة العنكبوت فإنه ذكر فيها امتحانه للمؤمنين ونصره لهم وحاجتهم الى الصبر والجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة ابراهيم لانها من النمط الاول ونصرة الله له على قومه وكذلك سورة الصافات قال فيها ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر فيها قصة إلياس ولم يذكرها في غيرها ولم يذكر هلاك قومه بل قال فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وإلياس قد روي ان الله تعالى رفعه وهذا يقتضي عذابهم في الآخره فان إلياس لم يقم فيهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث في كل أمة نذيرا والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأرادوا به كيدا فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين وفي هذا ظهور برهانه وآيته وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم وأظهره أيضا بالقدرة حيث أذلهم ونصره وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه وابراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا فلم يوجد في حق قوم ابراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك ومحمد وابراهيم أفضل الرسل فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك كما تاب من قريش من تاب وأما حال إبراهيم فكانت الى الرحمة أميل فلم يسعى في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 30 ]
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الارض من بعدهم وكان كل قوم لا يطلبون هلاك نبيهم الا عوقبوا وقوم ابراهيم أوصوله الى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب أذ الدنيا ليست دار الجزاء التام وانما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أراد أعداؤه من أتباع الانبياء أن يهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم واذا عصمه من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالا ثم كانت العاقبة له فهو أشبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم فان محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن ابراهيم خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريقة غيرهما ولم يذكر الله عن قوم ابراهيم دينا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة وأما أهل مدين فذكر عنهم الظلم في الاموال مع الشرك قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة ولم يذكروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وانما ذنبهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك وكانت عقوبتهم أشد إذ ليس في ذلك تدين بل شر يعلمون أنه شر وهذه الامور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم فان قوم نوح أغرقهم اذ لم يكن فيهم خير يرجى فصل في آيات الانبياء وبراهينهم
وهي الادلة والعلامات المستلزمة لصدقهم والدليل لا يكون إلا مستلزما للمدلول ع
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق