كتاب مفتاح دار السعادة
قال ابن القيم:
الوجه الخامس والسبعون ان النبي ثبت في الصحيحين عنه انه كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء الى صراط مستقيم وفي بعض السنن انه كان يكبر تكبيرة الاحرام في صلاة الليل ثم يدعو بهذا الدعاء والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له وهي اعظم نعمة لله على العبد ولهذا امرنا سبحانه ان نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس فإن العبد محتاج الى معرفة الحق الذي يرضى الله في كل حركة غاهرة وباطنة فإذا عرفها فهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق فيجعل إرادته في قلبه ثم إلى من يقدره على فعله ومعلوم ان ما يجهله العبد اضعاف اضعاف ما يعلمه وإن كل ما يعلم انه حق لا تطاوعه نفسه على غرادته ولو اراده لعجز عن كثير منه فهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل أما الماضي فهو محتاج إلى محاسبة نفسه عليه وهل وقع على السداد فيشكر الله عليه ويستديمه ام خرج فيه عن الحق فيتوب إلى الله تعالى منه ويتسغفره ويعزم على ان لا يعود وأما الهداية في الحال فهي مطلوبة منه فإنه ابن وقته فيحتاج ان يعلم حكم ما هو متلبس به من الافعال هل هو صواب ام خطأ وأما المستقبل فحاجته في الهداية اظهر ليكون سيره على الطريق وإذا كان هذا شأن الهداية علم ان العبد اشد شيء اضطرارا اليها وان ما يورده بعض الناس من السؤال الفاسد وهي انا إذا كنا مهتدين فأي حاجة بنا ان نسأل الله ان يهدينا وهل هذا الا تحصيل الحاصل افسد سؤال وابعده عن الصواب وهو دليل على ان صاحبه لم يحصل معنى الهداية ولا احاط علما بحقيقتها ومسماها فلذلك تكلف من تكلف الجواب عنه بان المعنى ثبتنا على الهداية وادمها لنا ومن احاط علما بحقية الهداية وحاجة العبد اليها علم ان الذي لم يحصل له منها اضعاف ما حصل له انه كل وقت محتاج إلى هداية متجددة لاسيما والله تعالى خالق افعال القلوب والجوارح فهو كل وقت محتاج ان يخلق الله له هداية
(1/83)
خاصة ثم ان لم يصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ومعلوم ان وساوس العبد وخواطره وشهوات الغي في قلبه كل منها مانع وصول اثر الهداية اليه فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاما فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بانفاسه وهي اعظم حاجة للعبد وذكر النبي في الدعاء العظيم القدر من اوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب فان فطر السموات والارض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها فذكر كونه فاطر السموات والارض والمطلوب تعليم الحق والتوفيق له فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة وان من هو بكل شيء عليم جدير ان يطلب منه عبده ان يعلمه ويرشده ويهديه وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه ان يعطى عبده شيئا من ماله والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته ان يغفر لعبده ويعفوه ان يعفو عنه وبرحمته ان يرحمه ونظائر ذلك وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل وهذا والله اعلم لان المطلوب هدى يحيا به القلب وهؤلاء الثلاثة الاملاك قد جعل الله تعالى على ايديهم اسباب حياة العباد اما جبريل فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الانبياء وهو سبب حياة الدنيا والاخرة واما ميكائيل فهو موكل بالقطر الذي به سبب حياة كل شيء واما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور فيحيى الله الموتى بنفخته فإذا هم قيام لرب العالمين والهداية لها اربع مراتب وهي مذكورة في القرآن المرتبة الاولى الهداية العامة وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والادمي لمصالحه التي بها قام امره قال الله تعالى سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى فذكر امورا اربعة الخلق والتسوية والتقدير والهداية فسوى خلقه واتقنه وأحكمه ثم قدر له اسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه اليها والهداية تعليم فذكر انه الذي خلق وعلم كما ذكر نظير ذلك في أول سورة انزلها على رسوله وقد تقدم ذلك وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون انه قال لموسى فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهذه المرتبة اسبق مراتب الهداية وأعمها المرتبة الثانية هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده وهذه لا تستلزم الاهتداء التام قال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى يعني بينا لهم ودللناهم وعرفناهم فآثروا الضلالة والعمى وقال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وهذه المرتبة اخص من الاولى وأعم من الثانية وهي هدى التوفيق والالهام قال الله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بالدعوة خلقه وخص بالهداية من شاء منهم قال تعالى
(1/84)
إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء مع قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والامام وقال النبي في نشهد الحاجة من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وقال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل أي من يضله الله لايهتدي أبدا وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء واما الثانية فشرط لاموجب فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة فإن تخلف الهدى عنها مستحيل المرتبة الرابعة الهداية في الاخرة إلى طريق الجنة والنار قال تعالى احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم واما قول اهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله فيحتمل ان يكونوا ارادوا الهداية إلى طريق الجنة وأن يكونوا ارادوا الهداية في الدنيا التي اوصلتهم إلى دار النعيم ولو قيل إن كلا الأمرين مراد لهم وانهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا وهدايتهم إلى طريق الجنة كان احسن وابلغ وقد ضرب الله تعالى لمن لم يحصل له العلم بالحق واتباعه مثلا مطابقا لحاله فقال تعالى قل اندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين الوجه السادس والسبعون ان فضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته
الكتاب: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
عدد الأجزاء: 2 × 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق