وكذا اللوح له حكم المصحف؛ إلا أن الفقهاء استثنوا بعض الحالات.
وقوله :"المحدث" أي: حدثا أصغر أو أكبر؛ لأن "أل" في المحدث اسم موصول فتشمل الأصغر والأكبر.
والحدث:وصف قائم بالبدن يمنع من فعل الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
والدليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: إنه لقرآن كريم ( 77 ) في كتاب مكنون ( 78 ) لا يمسه إلا المطهرون ( 79 ) تنزيل من رب العالمين ( 80 ) {الواقعة: 77 - 80}
وجه الدلالة: أن الضمير في قوله: "لا يمسه" يعود على القرآن، لأن الآيات سيقت للتحدث عنه بدليل قوله: تنزيل من رب العالمين {الواقعة: 80} والمنزل هو هذا القرآن، والمطهر: هو الذي أتى بالوضوء والغسل من الجنابة، بدليل قوله: ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6}(1).
فإن قيل: يرد على هذا الاستدلال: أن "لا" في قوله: "لا يمسه" نافية، وليست ناهية، لأنه قال:"لا يمسه" ولم يقل:"لا يمسه"؟.
قيل: إنه قد يأتي الخبر بمعنى الطلب، بل إن الخبر المـراد بــه الطلب أقوى من الطلب المجرد، لأنه يصور الشيء كأنه مفروغ منه، ومنه قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا {البقرة: 234} فقـــولـه "يتربصن" خبر بمعنــى الأمـر. وفي الـســنة: "لا يبيـع الرجــل على بيـع أخيه"(2) بلفـظـ الخبـــر، والمـــراد النـهـي.
2ـ ما جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وفيه: "... ألا يمس القرآن إلا طاهر..."(1).
والطاهر: هو المتطهر طهارة حسية من الحدث بالوضوء أو الغسل، لأن المؤمن طهارته معنوية كاملة، والمصحف لا يمسه غالبا إلا المؤمنون، فلما قال: "إلا طاهر" علم أنها طهارة غير الطهارة المعنوية، بل المراد الطهارة من الحدث ويدل لهذا قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} أي طهارة حسية؛ لأنه قال ذلك في آية الوضوء والغسل.
3ـ من النظر الصحيح: أنه ليس في الوجود كلام أشرف من كلام الله، فإذا أوجب الله الطهارة للطواف في بيته، فالطهارة لتلاوة كتابه الذي تكلم به من باب أولى، لأننا ننطق بكلام الله خارجا من أفواهنا، فمماستنا لهذا الكلام الذي هو أشرف من البناء يقتضي أن نكون طاهرين؛ كما أن طوافنا حول الكعبة يقتضي أن نكون طاهرين، فتعظيما واحتراما لكتاب الله يجب أن نكون على طهارة.
وهذا قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة(1) .
وقال داود الظاهري وبعض أهل العلم: لا يحرم على المحدث أن يمس المصحف(2).
واستدلوا: بأن الأصل براءة الذمة، فلا نؤثم عباد الله بفعل شيء لم يثبت به النص.
وأجابوا عن أدلة الجمهور:
أما الآية فلا دلالة فيها، لأن الضمير في قوله: "لا يمسه" يعود إلى "الكتاب المكنون"، والكتاب المكنون يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، ويحتمل أن المراد به الكتب التي بأيدي الملائكة. فإن الله تعالى قال: كلا إنها تذكرة ( 11 ) فمن شاء ذكره ( 12 ) في صحف مكرمة ( 13 ) مرفوعة مطهرة ( 14 ) بأيدي سفرة ( 15 ) كرام بررة {عبس: 11 - 16} وهذه الآية تفسير لآية الواقعة فقوله: في صحف مكرمة كقوله: في كتاب مكنون {الواقعة: 78}
وقوله: بأيدي سفرة كقوله: لا يمسه إلا المطهرون{الواقعة: 79}.
والقرآن يفسر بعضه بعضا،ولو كان المراد ما ذكر الجمهور لقال: "لا يمسه إلا المطهرون" بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة يعني: المتطهرين، وفرق بين "المطهر" اسم مفعول، وبين "المتطهر" اسم فاعل، كما قال الله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222 {البقرة: 222} .
وقولهم: إن الخبر يأتي بمعنى الطلب، هذا صحيح لكن لا يحمل الخبر على الطلب إلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملة خبرية، ويكون هذا مؤيدا لما ذكرناه من أن المراد بـ "المطهرون"، الملائكة كما دلت على ذلك الآيات في سورة "عبس" .
وأما قوله: تنزيل من رب العالمين {الواقعة: 80} فهو عائد على القرآن، لأن الكلام فيه، ولا مانع من تداخل الضمائر، وعود بعضها إلى غير المتحدث عنه، ما دامت القرينة موجودة.
ثم على احتمال تساوي الأمرين فالقاعدة عند العلماء أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذمة.
وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: فهو ضعيف، لأنه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف، والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام؛ فضلا عن إثبات حكم يلحق بالمسلمين المشقة العظيمة في تكليف عباد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهم طاهرون، وخاصة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صحته بناء على شهرته فإن كلمة "طاهر" تحتمل أن يكون طاهر القلب من الشرك، أو طاهر البدن من النجاسة، أو طاهرا من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدليل إذا احتمل احتمالين بطل الاستدلال به، فكيف إذا احتمل أربعة؟
وكذا فإن الطاهر يطلق على المؤمن لقوله تعالى: إنما المشركون نجس {التوبة: 28} وهذا فيه إثبات النجاسة للمشرك.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس"(1) وهذا فيه نفي النجاسة عن المؤمن، ونفي النقيض يستلزم ثبوت نقيضه، لأنه ليس هناك إلا طهارة أو نجاسة، فلا دلالة فـيه علـى أن مـس المصحف لا يكون إلا من متوضيء.
وأما بالنسبة للنظر: فنحن لا نقر بالقيـاس أصلا، لأن الظاهــرية لا يقولون به.
وعندي: أن ردهم للاستدلال بالآية واضح، وأنا أوافقهم على ذلك.
وأما حديث عمرو بن حزم فالسند ضعيف كما قالوا(1) ، لكن من حيث قبول الناس له، واستنادهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزكاة والديات وغيرها، وتلقيهم له بالقبول يدل على أن له أصلا، وكثيرا ما يكون قبول الناس للحديث سواء كان في الأمور العلمية أو العملية قائما مقام السند، أو أكثر، والحديث يستدل به من زمن التابعين إلى وقتنا هذا، فكيف نقول: لا أصل له؟ هذا بعيد جدا.
وكنت في هذه المسألة أميل إلى قول الظاهرية، لكن لـما تأملت قوله صلى الله عليه وسلم "لا يمس القرآن إلا طاهر" والطاهر يطلق على الطاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} ولم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر؛ لأن وصفه بالإيمان أبلغ، تبين لي أنه لا يجوز أن يمس القرآن من كان محدثا حدثا أصغر، أو أكبر، والذي أركن إليه حديث عمرو بن حزم، والقياس الذي استدل به على رأي الجمهور فيه ضعف، ولا يقوى للاستدلال به، وإنما العمدة على حديث عمرو بن حزم.
وقد يقول قائل: إن كتاب عمرو بن حزم كتب إلى أهل اليمن، ولم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت، فكونه لغير المسلمين يكون قرينة أن المراد بالطاهر هو المؤمن.
وجوابه: أن التعبير الكثير من قوله صلى الله عليه وسلم أن يعلق الشيء بالإيمان، وما الذي يمنعه من أن يقول: لا يمس القرآن إلا مؤمن، مع أن هذا واضح بين.
فالذي تقرر عندي أخيرا: أنه لا يجوز مس المصحف إلا بوضوء.
(مسألة) هل المحرم مس القرآن، أو مس المصحف الذي فيه القرآن؟ فيه وجه للشافعية: أن المحرم مس نفس الحروف دون الهوامش(1)، لأن الهوامش ورق، قال تعالى: بل هو قرآن مجيد 21 في لوح محفوظ {البروج: 21، 22} والظرف غير المظروف.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر"(2).
وقال الحنابلة: يحرم مس القرآن وما كتب فيـه؛ إلا أنـه يجـوز للصغير أن يمس لوحا فيه قرآن بشــرط ألا تقع يده علــى الحروف(1).
وهذا هو الأحوط؛ لأنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.
(مسألة) هل يشمل هذا الحكم من دون البلوغ.
قال بعض العلماء: لا يشمل الصغار لأنهم غير مكلفين(2)، وإذا كانوا غير مكلفين فكيف نلزمهم بشيء لا يتعلق به كفر، ولا ما دون الكفر؛ إلا أنه معصية للكبير، وهؤلاء ليسوا من أهل المعاصي لرفع القلم عنهم.
وهل يلزم وليه أن يأمره بذلك، أو لا يلزمه؟
الصحيح عند الشافعية: أنه لايلزمه الوضوء، ولا يلزم وليه أن يلزمه به(3)؛ لأنه غير مكلف.
ولأن إلزام وليه به فيه مشقة وهو غير واجب عليه، وإذا كان فيه مشقة في أمر لا يجب على الصغير، فإنه لا يلزمه به وليه.
والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجوز للصغير أن يمس القرآن بلا وضوء، وعلى وليه أن يلزمه به كما يلزمه بالوضوء للصلاة(1)، لأنه فعل تشترط لحله الطهارة، فلا بد من إلزام وليه به.
واستثنوا "اللوح"، فيجوز للصغير أن يمسه ما لم تقع يده على الحروف(1). وعلل بعضهم ذلك بالمشقة(2)، وعلل آخرون بأن هذه الكتابة ليست كالتي في المصحف(2)، لأن التي في المصحف تكتب للثبوت والاستمرار، أما هذه فلا.
ولو كتبت قرآنا معكوسا ووضعته أمام المرآة، فإنه يكون قرآنا غير معكوس، ولا يحرم مس المرآة، لأن القرآن لم يكتب فيها.
وظاهر كلام الفقهاء رحمهم الله: أنه لا يجوز مس "السبورة"(3) الثابتة بلا وضوء إذا كتبت فيها آية، لكن يجوز أن تكتب القرآن بلا وضوء ما لم تمسها. وقد يقال: إن هذا الظاهر غير مراد؛ لأنه يفرق بين المصحف أو اللوح وبين السبورة الثابتة، بأن المصحف أو اللوح ينقل ويحمل فيكون تابعا للقرآن بخلاف السبورة الثابتة.
وأما كتب التفسير فيجوز مسها؛ لأنها تعتبر تفسيرا، والآيات التي فيها أقل من التفسير الذي فيها.
ويستدل لهذا بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم الكتب للكفار، وفيها آيات من القرآن(1)، فدل هذا على أن الحكم للأغلب والأكثر.
أما إذا تساوى التفسير والقرآن، فإنه إذا اجتمع مبيح وحاظر ولم يتميز أحدهما برجحان، فإنه يغلب جانب الحظر فيعطى الحكم للقرآن.
وإن كان التفسير أكثر ولو بقليل أعطي حكم التفسير.
قوله: "والصلاة". أي: تحرم الصلاة على المحدث، وذلك بالنص من الكتاب والسنة والإجماع.
أولا: الكتاب:
قال الله تعالى: يا أيها الذيــن آمنوا إذا قمتم إلى الصـــلاة فاغســلوا وجوهكم {المائدة: 6} ثم علل ذلك بأن المقـصود التطهر لهذه الصلاة.
وعلى هذا فالطهارة شرط لصحة الصلاة وجوازها، فلا يحل لأحد أن يصلي وهو محدث، سواء كان حدثا أصغر أو أكبر.
فإن صلى وهو محدث، فإن كان هذا استهزاء منه؛ فهو كافر لاستهزائه. وإن كان متهاونا فقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في تكفيره.
فمذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ : أنه يكفر(1)، لأن من صلى وهو محدث مع علمه بإيجاب الله الوضوء فهذا كالمستهزيء، والاستهزاء كفر كما قال الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون 65 لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم {التوبة: 65، 66}.
ومذهب الأئمة الثلاثة: أنه لا يكفر(2)، لأن هذه معصية، ولا يلزم من تركه أن يكون مستهزئا.
ولهذا قلنا: إن صلى بلا وضوء استهزاء فإنه كافر، وإلا فلا. وهذا أقرب، لأن الأصل بقاء الإسلام، ولا يمكن أن نخرجه منه إلا بدليل.
ثانيا: السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة بغير طهور"(1) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا صلاة بغير طهور"(2) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"(3).
ثالثا :الإجماع :
فقد أجمع المسلمون أنه يحرم على المحدث أن يصلي بلا طهارة.
والصلاة هي التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، سواء كانت ذات ركوع وسجود أم لا.
فالفرائض الخمس صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، فينطبق عليها التعريف الشرعي، فتكون داخلة في مسمى الصلاة.
وقال بعض العلماء: إن الصلاة هي التي فيها ركوع وسجود(1).
وقال آخرون: إن الصلاة هي التي تكون ركعتين فأكثر، إلا الوتر فهو صلاة، ولو ركعة(1).
والأول هو الأصح.
وبناء على هذا التعريف ننظر في سجدتي التلاوة والشكر هل يكونان صلاة؟
فالمشهور من المذهب أنهما صلاة تفتتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، ولهذا يشرع عندهم أن يكبر إذا سجد وإذا رفع، ويسلم. وبناء على هذا يحرم على المحدث أن يسجد للتلاوة أو الشكر وهو غير طاهر. فالخلاف في اشتراط الطهارة لهما مبني على أن سجدتي التلاوة والشكر هل هما صلاة أم لا؟ فإن قلنا: إنهما صلاة وجب لهما الطهارة ، وإن قلنا: إنهما غير صلاة لم تجب لهما الطهارة .
والمتأمل للسنة يدرك أنهما ليسا بصلاة لما يلي:
1ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد للتلاوة، ولم ينقل عنه أنه كان يكبر إذا سجد أو رفع، ولا يسلم، إلا في حديث رواه أبو داود في التكبير للسجود دون الرفع منه، ودون التسليم(1).
2ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والمشرك لا تصح منه صلاة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك(2).
وهذا قد يعارض فيه، فيقال: إن سجود المشركين في ذلك الوقت كان قبل فرض الوضوء، لأن فرض الوضوء لم يكن إلا مع فرض الصلاة، والصلاة لم تفرض إلا متأخرة قبل الهجرة بسنة، أو بثلاث سنوات، وما دام الاحتمال قائما فالاستدلال فيه نظر.
والمتأمل لسجود النبي صلى الله عليه وسلم للشكر، أو التلاوة يظهر له أنه لا يكبر، وعليه لا تكون سجدة التلاوة والشكر من الصلاة، وحينئذ لا يحرم على من كان محدثا أن يسجد للتلاوة أو الشكر وهو على غير طهارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله(1).
وصح عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يسجد للتلاوة بلا وضوء(2).
ولا ريب أن الأفضل أن يتوضأ، ولاسيما أن القاريء سوف يتلو القرآن، وتلاوة القرآن يشرع لها الوضوء، لأنها من ذكر الله، وكل ذكر و يشرع له الوضوء.
أما اشتراط الطهارة لسجود الشكر فضعيف، لأن سببه تجدد النعم، أو تجدد اندفاع النقم، وهذا قد يقع للإنسان وهو محدث.
فإن قلنا: لا تسجد حتى تتوضأ؛ فربما يطول الفصل، والحكم المعلق بسبب إذا تأخر عن سببه سقط، وحينئذ إما أن يقال: اسجد على غير وضوء، أو لا تسجد، لأنه قد لا يجد الإنسان ماء يتوضأ منه سريعا ثم يسجد.
أما سجود التلاوة فينبغي ألا يسجد الإنسان إلا وهو على طهارة كما أنه ينبغي أن يقرأ على طهارة.
قوله: "والطواف" أي: يحرم على المحدث الطواف بالبيت، سواء كان هذا الطواف نسكا في حج، أو عمرة أو تطوعا، كما لو طاف في سائر الأيام.
والدليل على ذلك:
1ـ أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين أراد الطواف توضأ ثم طاف(1).
2ـ حديث صفية لما قيل له: إن صفية قد حاضت، وظن أنها لم تطف للإفاضة فقال: "أحابستنا هي؟"(2).
والحائض معلوم أنها غير طاهر.
3ـ حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"(1).
4ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة؛ إلا أن الله أباح فيه الكلام؛ فلا تكلموا فيه إلا بخير"(2).
5ـ استدل بعضهم بقوله تعالى وعهدنا إلى" إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود {البقرة: 125}
وجه الدلالة: أنه إذا وجب تطهير مكان الطائف، فتطهير بدنه أولى، وهذا قول جمهور العلماء(3).
وقال بعض العلماء: إن الطواف لا تشترط له الطهارة، ولا يحرم على المحدث أن يطوف، وإنما الطهارة فيه أكمل(1).
واستدلوا: بأن الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل على تحريم هذا الفعل إلا بهذا الشرط، ولا دليل على ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر: لا يقبل الله طوافا بغير طهور، أو: لا تطوفوا حتى تطهروا. وإذا كان كذلك فلا نلزم الناس بأمر لم يكن لنا فيه دليل بين على إلزامهم، ولاسيما في الأحوال الحرجة كما لو انتقض الوضوء في الزحمة الشديدة في أيام الموسم، فيلزمه على هذا القول إعادة الوضوء، والطواف من جديد.
وأجابوا عن أدلة الجمهور:
أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أنه الأفضل، ولا نزاع في أن الطواف على طهارة أفضل؛ وإنما النزاع في كون الطهارة شرطا لصحة الطواف.
وأما حديث عائشة: "افعلي ما يفعل الحاج... " إلى آخره، وقوله صلى الله عليه وسلم في صفية: "أحابستنا هي؟". فالحائض إنما منعت من الطواف بالبيت، لأن الحيض سبب لمنعها من المكث في المسجد، والطواف مكث.
وأيضا: فالحيض حدث أكبر، فلا يستدل بهذا على أن المحدث حدثا أصغر لا يجوز له الطواف بالبيت، وأنتم توافقون على أن المحدث حدثا أصغر يجوز له المكث في المسجد، ولا يجوز للحائض أن تمكث، فمناط حكم المنع عندنا هو المكث في المسجد.
وأما حديث "الطواف بالبيت صلاة"(1) فيجاب عنه:
1ـ أنه موقوف على ابن عباس، ولا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم.
2ـ أنه منتقض، لأننا إذا أخذنا بلفظه، فإنه على القواعد الأصولية يقتضي أن جميع أحكام الصلاة تثبت للطواف إلا الكلام، لأن من القواعد الأصولية: أن الاستثناء معيار العموم. أي: إذا جاء شيء عام ثم استثنى منه، فكل الأفراد يتضمنه العموم، إلا ما استثني، وإذا نظرنا إلى الطواف وجدناه يخالف الصلاة في غالب الأحكام غير الكلام، فهو يجوز فيه الأكل، والشرب، ولا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا قراءة، ولا يبطل بالفعل ونحوه، وكلامه صلى الله عليه وسلم يكون محكما لا يمكن أن ينتقض، فلما انتقض بهذه الأمور ووجدنا هذه الاستثناءات علمنا أن هذا لا يصح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا أحد الأوجه التي يستدل بها على ضعف الحديث مرفوعا، وهو أن يكون متخلخلا، لا يمكن أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما بالنسبة للآية ؛ فلا يصح الاستدلال بها، إذ يلزم منه أن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا بطهارة، ولم يشترط أحد ذلك، إلا إن كان جنبا فيجب عليه أن يتطهر ثم يعتكف؛ لأن الجنابة تنافي المكث في المسجد.
ولا شك أن الأفضل أن يطوف بطهارة بالإجماع، ولا أظن أن أحدا قال: إن الطواف بطهارة وبغير طهارة سواء، لأنه من الذكر، ،ولفعله صلى الله عليه وسلم .
(مسألة): إذا اضطرت الحائض إلى الطواف.
على القول بأن الطهارة من الحيض شرط