كتاب مفتاح دار السعادة
قال ابن القيم:
الوجه السابع والسبعين وهو ان شرف العلم تابع لشرف معلومه لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الحاجة إلى معرفته وعظم النفع بها ولا ريب ان اجل معلوم وأعظمه واكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين وقيوم السموات والارضين الملك الحق المبين الموصوف بالكمال كله المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله ولا ريب ان العلم به وباسمائه وصفاته وافعاله اجل العلوم وافضلها ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومة إلى سائر المعلومات وكما ان العلم به اجل العلوم واشرفها فهو اصلها كلها كما ان كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق المبين ومفتقر اليه في تحقق ذاته وأينيته وكل علم فهو تابع للعلم به مفتقر في تحقق ذاته اليه فالعلم به اصل كل علم كما انه سبحانه رب كل شيء ومليكه وموجده ولا ريب ان كمال العلم بالسبب التام وكونه سببا يستلزم العلم بمسببه كما ان العلم بالعلة التامة ومعرفة كونها علة يستلزم العلم بمعلوله وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده اليه استناد المصنوع إلى صانعه والمفعول الى فاعله فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وافعاله يستلزم العلم بما سواه فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه والعلم به اصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه اجهل قال تعالى ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم انفسهم فتأمل هذه الاية تجد تحتها معنى شريفا عظيما وهو ان من نسى ربه انساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسى ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطلا مهملا بمنزلة الانعام السائبة بل ربما كانت الانعام اخبر بمصالحها منه لبقائها هداها الذي اعطاها إياه خالقها وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسى ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكوبه وتسعد به في معاشها ومعادها قال الله تعالى ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه امره وقلبه فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الامر حيران لايهتدي سبيلا والمقصود ان العلم بالله اصل كل علم وهو اصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به فالعلم به سعادة العبد والجهل به اصل شقاوته يزيده ايضاحا الوجه الثامن والسبعون انه لا شيء اطيب للعبد ولا الذ ولا اهنأ ولا انعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكر
الكتاب: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
عدد الأجزاء: 2 × 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق