كتاب النبوات،
قال ابن تيمية :
فصل
ومن تدبر هذا وغيره تبين له أن جميع ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يخالف الكتاب والسنة فانه باطل
ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة ان ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل لكن كثير من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة لا يعرف ما
النبوات [ جزء 1 - صفحة 138 ]
الذي يوافق الكتاب والسنة وما الذي يخالفه كما قد أصاب كثير من الناس في الكتب المصنفة في الكلام في أصول الدين وفي الرأي والتصوف وغير ذلك فكثير منهم قد اتبع طائفة يظن أن ما يقولونه هو الحق وكلهم على خطأ وضلال ولقد أحسن الامام أحمد في قوله في خطبته وان كانت مأثورة عمن تقدم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل الى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لابليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن اثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب محالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
فهؤلاء أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم كما قال مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وتصديق ما ذكره أنك لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم بل لكل طائفة أصول دين لهم فهي أصول دينهم الذي هم عليه ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وما هم عليه من الدين ليس كله موافقا للرسول ولا كله مخالفا له بل بعضه موافق وبعضه مخالف بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل كما قال تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون لكن بعض الطوائف أكثر مخالفة للرسول من بعض وبعضها أظهر مخالفة ولكن الظهور أمر نسبي فمن عرف السنة ظهرت له مخالفة من خالفها فقد تظهر مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس لعلمه بالسنة دون من
النبوات [ جزء 1 - صفحة 139 ]
لا يعلم منها ما يعلمه هو وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الامة فتظهر مخالفة من خالفها كما تظهر للجمهور مخالفة الرافضة للسنة وعند الجمهور هم المخالفون للسنة فيقولون أنت سنى أو رافضي وكذلك الخوارج لما كانوا أهل سيف وقتال ظهرت مخالفتهم للجماعة حين كانوا يقاتلون الناس وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس وبدع القدرية والمرجئة ونحوهم لا تظهر مخالفتها بظهور هذين وهاتان البدعتان ظهرتا لما قتل عثمان في الفتنة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وظهرت الخوارق بمفارقة أهل الجماعة واستحلال دمائهم وأموالهم حتى قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب متبعا في ذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال الامام أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وهذه قد رواها صاحبه مسلم بن الحجاج في صحيحه وروى البخاري قطعة منها واتفقت الصحابة على قتال الخوارج حتى ان ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فرقة كسعد وغيره من السابقين ولهذا لم يبايعوا لأحد الا في الجماعة قال عند الموت ما آسى على شيء إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي يريد بذلك قتال الخوارج والا فهو لم يبايع لا لعلي ولا غيره ولم يبايع معاوية الا بعد ان اجتمع الناس عليه فكيف يقاتل احدى الطائفتين وانما أراد المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق وهذا حدث به أبو سعيد فلما بلغ ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج وأمره بقتالهم تحسر على ترك قتالهم فكان قتالهم ثابتا بالسنة الصحيحة الصريحة وباتفاق الصحابة بخلاف فتنة الجمل وصفين فان أكثر السابقين الاولين كرهوا القتال في هذا وهذا وكثير من الصحابة قاتلوا إما من هذا الجانب وإما من هذا الجانب فكانت الصحابة في ذلك على ثلاثة اقوال لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن علي بن أبي طالب كان أولى بالحق وأن ترك القتال بالكلية كان خيرا وأولى ففي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تمرق مارقة على حين فرقة من الاسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وقد ثبت عنه أنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم والقائم خيرا من الماشي والماشي خيرا من الساعي وانه أثنى على من صالح ولم يثن على من قاتل ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن ان ابني هذا سيد
النبوات [ جزء 1 - صفحة 140 ]
وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين فاثنى على الحسن في اصلاح الله به بين الفئتين وفي صحيح مسلم وبعض نسخ البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الفئة الباغية وفي الصحيحين أيضا أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة قال معاذ وهم بالشام وفي صحيح مسلم عنه أنه قال لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم قال أحمد بن حنبل وغيره أهل المغرب أهل الشام أي أنها أول المغرب فان التغريب والتشريق أمر نسبي فلكل بلد غرب وشرق وهو صلى الله عليه وسلم تكلم بمدينته فما تغرب عنها فهو غرب وما تشرق عنها فهو شرق وهي مسامته أول الشام من ناحية الفرات كما أن مكة مسامته لحران وسميساط ونحوهما وتصويب قتالهم ان كان بعد الاصلاح فلم يقع الاصلاح وإن كان عند بغيهم في الاقتتال وان لم يكن اصلاح فهؤلاء البغاة لم يكن في اصحاب علي من يقاتلهم بل تركوا قتالهم إما عجزا وإما تفريطا فترك الاصلاح المأمور به وعلى هذا قوتلوا ابتداء قتالا غير مأمور به ولما صار قتالهم مأمورا به لم يقاتلوا القتال المأمور به بل نكل أصحاب علي عن القتال إما عجزا وإما تفريطا والبغاة المأمور بقتالهم هم الذين بغوا بعد الاقتتال وامتنعوا من الاصلاح المأمور به فصاروا بغاة مقاتلين والبغاة اذا ابتدأوا بالقتال جاز قتالهم بالاتفاق كما يجوز قتال الغواة قطاع الطريق اذا قاتلوا باتفاق الناس فأما الباغي من غير قتال فليس في النص أن الله أمر بقتاله بل الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب كما ذهب اليه جمهور العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة كما هو مبسوط في موضعه والصديق قاتل المرتدين الذين ارتدوا عما كانوا فيه على عهد الرسول من دينه وهم أنواع منهم من آمن بمتنبئ كذاب ومنهم من لم يقر ببعض فرائض الاسلام التي أقر بها مع الرسول ومنهم من ترك الاسلام بالكلية ولهذا تسمى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتنا كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم والملاحم ما كان بين المسلمين والكفار وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الخوارج ظهروا في الفتنة وكفروا عثمان وعليا ومن والاهما وباينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة وكانوا كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان وكانوا أعظم الناس صلاة
النبوات [ جزء 1 - صفحة 141 ]
وصياما وقراءة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ومروقهم منه خروجهم باستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم فانه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم فخرجوا منه ولم يحكم علي وأئمة الصحابة فيهم بحكمهم في المرتدين بل جعلوهم مسلمين وسعد بن أبي وقاص وهو أفضل من كان قد بقي بعد علي وهو من أهل الشورى واعتزل في الفتنة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ولكنه ممن تكلم في الخوارج وتأول فيهم قوله وما يضل به الا الفاسفين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون وحدث أيضا طوائف الشيعة الالهية الغلاة فرفع الى علي منهم طائفة ادعوا فيه الالهية فأمرهم بالرجوع فأصروا فأمهلهم ثلاثا ثم أمر بأخاديد من نار فخدت وألقاهم فيها فرأى قتلهم بالنار وأما ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري وأكثر الفقهاء على قول ابن عباس وروي أنه بلغه أن ابن السوداء يسب أبا بكر وعمر فطلب قتله فهرب منه فاما قتله على السب أو لأنه كان متهما بالزندقة وقيل إنه هو الذي ابتدع بدعة الرافضة وأنه كان قصده افساد دين الاسلام وهذا يستحق القتل باتفاق المسلمين والذين يسبون أبا بكر وعمر فيهم تزندق كالاسماعيلية والنصيرية فهؤلاء يستحقون القتل بالاتفاق وفيهم من يعتقد بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم كالامامية فهؤلاء في قتلهم نزاع وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع وتواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وهذا متفق عليه بين قدماء الشيعة وكلهم كانوا يفضلوا أبا بكر وعمر وانما كان النزاع في علي وعثمان حين صار لهذا شيعة ولهذا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 142 ]
شيعة وأما أبو بكر وعمر فلم يكن أحد يتشيع لهما بل جميع الامة كانت متفقة عليهما حتى الخوارج فانهم يتولونهما وانما يتبرءون من علي وعثمان وروي أن معاوية قال لابن عباس أنت على ملة علي أم عثمان قال لا على ملة علي ولا عثمان أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كل من الشيعتين يذم الآخر بما برأه الله منه فكان بعض شيعة عثمان يتكلمون في علي بالباطل وبعض شيعة علي يتكلمون في عثمان بالباطل والشيعتان مع سائر الامة متفقة على تقديم أبي بكر وعمر قيل لشريك بن عبد الله القاضي أنت من شيعة علي وأنت تفضل أبا بكر وعمر فقال كل شيعة علي على هذا هو يقول على أعواد هذا المنبر خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وقد روى البخاري في صحيحه من حديث محمد بن الحنفية أنه قال له يا ابت من خير الناس بعد رسول الله فقال يا بني أو ما تعرف قال لا قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر وهو مروي من حديث الهمدانيين شيعة علي عن أبيه وروي عن علي أنه قال ... ولو كنت بوابا على باب الجنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام ...
وقد روي عنه انه قال لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري وقد ثبت عن علي رضي الله عنه بالاحاديث الثابتة بل المتواترة أنه قتل الغالية كالذين يعتقدون إلهيته بعد أن استتابهم ثلاثا كسائر المرتدين وأنه كان يبالغ في عقوبة من يسب أبا بكر وعمر وأنه كان يقول انهما خير هذه الامة بعد نبيها وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا أن هاتين البدعتين حدثتا في ذلك الوقت ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية وتكلم فيهم من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس ووائلة بن الاسقع وغيرهم وحدثت أيضا بدعة المرجئة في الايمان والآثار عن الصحابة ثابتة بمخالفتهم وأنهم قالوا الايمان يزيد وينقص كما ثبت ذلك عن الصحابة كما هو مذكور في موضعه وأما الجهمية نفاة الاسماء والصفات فإنما حدثوا في أواخر الدولة الاموية وكثير من السلف لم يدخلهم في الثنتين والسبعين فرقة منهم يوسف ابن أسباط وعبد الله بن المبارك قالوا أصول البدع أربعة الخوارج والشيعة
النبوات [ جزء 1 - صفحة 143 ]
والقدرية والمرجئة فقيل لهم الجهمية فقالوا ليس هؤلاء من أمة محمد ولهذا تنازع من بعدهم من أصحاب أحمد وغيرهم هل هم من الثنتين والسبعين على قولين ذكرهما عن أصحاب أحمد أبو عبد الله بن حامد في كتابه في الاصول والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الاسماء والصفات كما يحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي اسماء الله الحسنى كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول وأما نفي الصفات مع اثبات الاسماء كقول المعتزلة فهو دون هذا لكنه عظيم أيضا وأما من أثبت الصفات المعلومات بالعقل والسمع وإنما نازع في قيام الامور الاختيارية به كابن كلاب ومن اتبعه فهؤلاء ليسوا جهمية بل وافقوا جهما في بعض قوله وإن كانوا خالفوه في بعضه وهؤلاء من اقرب الطوائف الى السلف وأهل السنة والحديث وكذلك السالمية والكرامية ونحو هؤلاء يوافقون في جملة أقوالهم المشهورة فيثبتون الاسماء والصفات والقضاء والقدر في الجملة ليسوا من الجهمية والمعتزلة النفاة للصفات وهم أيضا يخالفون الخوارج والشيعة فيقولون باثبات خلافة الاربعة وتقديم أبي بكر وعمر ولا يقولون بخلود أحد من أهل القبلة في النار لكن الكرامية والكلابية وأكثر الاشعرية مرجئة وأقربهم الكلابية يقولون الايمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان والاعمال ليست منه كما يحكى هذا عن كثير من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وأصحابه وأما الاشعري فالمعروف عنه وعن أصحابه أنهم يوافقون جهما في قوله في الايمان وأنه مجرد تصديق القلب أو معرفة القلب لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث ويتأولونه ويقولون بالاستثناء على الموافاة فليسوا موافقين لجهم من كل وجه وإن كانوا أقرب الطوائف اليه في الايمان وفي القدر أيضا فانه رأس الجبرية يقول ليس للعبد فعل البتة والاشعري يوافقه على أن العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل ولكن يقول هو كاسب وجهم لا يثبت له شيئا لكن هذا الكسب يقول أكثر الناس انه لا يعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته وقالوا عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الاشعري وأنشدوا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 144 ]
مما يقال ولا حقيقة عنده ... معقوله تدنو الى الافهام ... الكسب عند الاشعري والحا ... ل عند البهشمي وطفرة النظام ...
وأما الكرامية فلهم في الايمان قول ما سبقهم اليه أحد قالوا هو الاقرار باللسان وإن لم يعتقد بقلبه وقالوا المنافق هو مؤمن ولكنه مخلد في النار وبعض الناس يحكي عنهم أن المنافق في الجنة وهذا غلط عليهم بل هم يجعلونه مؤمنا مع كونه مخلدا في النار فينازعون في الاسم لا في الحكم وقد بسط القول على منشأ الغلط حيث ظنوا أن الايمان لا يكون الا شيئا متماثلا عند جميع الناس اذا ذهب بعضه ذهب سائره ثم قالت الخوارج والمعتزلة وهو أداء الواجبات واجتناب المحرمات فاسم المؤمن مثل اسم البر والتقى وهو المستحق للثواب فاذا ترك بعض ذلك زال عنه اسم الايمان والاسلام ثم قالت الخوارج ومن لم يستحق هذا ولا هذا فهو كافر وقالت المعتزلة بل ينزل منزلة بين المنزلتين فنسميه فاسقا لا مسلما ولا كافرا ونقول انه مخلد في النار وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة والا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم فهم وافقوا الخوارج في حكمه ونازعوهم ونازعوا غيرهم في الاسم وقالت الجهمية والمرجئة بل الأعمال ليست من الايمان لكنه شيئان أو ثلاثة يتفق فيها جميع الناس التصديق بالقلب والقول باللسان أو المحبة والخضوع مع ذلك وقالت الجهمية والاشعرية والكرامية بل ليس إلا شيئا واحدا يتماثل فيه الناس وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم ظنهم أن الايمان يتماثل فيه الناس وأنه اذا ذهب بعضه ذهب كله وكلا الامرين غلط فان الناس لا يتماثلون لا فيما وجب منه ولا فيما يقع منهم بل الايمان الذي وجب على بعض الناس قد لا يكون مثل الذي يجب على غيره كما كان الايمان بمكة لم يكن الواجب منه كالواجب بالمدينة ولا كان في آخر الامر كما كان في أوله ولا يجب على أهل الضعف والعجز من الايمان ما يجب على أهل القوة والقدرة في العقول والأبدان بل أهل العلم بالقرآن والسنة ومعاني ذلك يجب عليهم من تفصيل الايمان مالا يجب على من لم يعرف ما عرفوا وأهل الجهاد يجب عليهم من الايمان في تفصيل الجهاد مالا يجب على غيرهم وكذلك ولاة الامر واهل الاموال يجب على كل من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه وأخبر
النبوات [ جزء 1 - صفحة 145 ]
به مالا يجب على غيره والاقرار بذلك من الايمان ومعلوم أنه وان كان الناس كلهم يشتركون في الاقرار بالخالق وتصديق الرسول جملة فالتفصيل لا يحصل بالجملة ومن عرف ذلك مفصلا لم يكن ما أمر به ووجب عليه مثل من لم يعرف ذلك وايضا فليس الناس متماثلين في فعل ما أمروا به من اليقين والمعرفة والتوحيد وحب الله وخشية الله والتوكل على الله والصبر لحكم الله وغير ذلك مما هو من ايمان القلوب ولا في لوازم ذلك التي تظهر على الابدان واذا قدر أن بعض ذلك زال لم يزل سائره بل يزيد الايمان تارة وينقص تارة كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر بن حبيب الخطمي وغيره انهم قالوا الايمان يزيد وينقص كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا أن طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم فانهم وان اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ وقد زعم طائفة ان إجماع المتكلمين في المسائل الكلامية كاجماع الفقهاء وهذا غلط بل السلف قد استفاض عنهم ذم المتكلمين وذم أهل الكلام مطلقا ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الاعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته او يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الاسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة ولهذا طرداه فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل وقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما كما قد بسط فروع هذا الاصل الذي اشتركوا فيه ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه فائمتهم كانوا يقولون كلام الله القرآن وغيره مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم الا بجسم والجسم حادث فقالوا القرآن وغيره من كلام الله مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب فجاء بعدهم مثل ابن كلاب وابن كرام والاشعري وغيرهم من
النبوات [ جزء 1 - صفحة 146 ]
شاركهم في أصل قولهم لكن قالوا بثبوت الصفات لله وأنها قديمة لكن منهم من قال لا تسمى أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية كما يقوله الاشعري وغيره ومنهم من قال تسمى أعراضا وهي قديمة وليس كل عرض حادثا كابن كرام وغيره ثم افترقوا في القرآن وغيره من كلام الله فقال ابن كلاب ومن اتبعه هو صفة من الصفات قديمة كسائر الصفات ثم قال ولا يجوز أن يكون صوتا لانه لا يبقى ولا معاني متعددة فإنها ان كان لها عدد مقدر فليس قدر بأولى من قدر وإن كانت غير متناهية لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها وهذا ممتنع فقال انه معنى واحد وهو معنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والانجيل وقال جمهور العقلاء إن تصور هذا القول تصورا تاما يوجب العلم بفساده وقال طائفة بل كلامه قديم العين وهو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية مع أنها مترتبة في نفسها وأن تلك الحروف والاصوات باقية أزلا وأبدا وجمهور العقلاء يقولون ان فساد هذا معلوم بالضرورة وهاتان الطائفتان تقولان انه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وقال آخرون كالهشامية والكرامية بل هو متكلم بمشيئته وقدرته وكلامه قائم بذاته ولا يمتنع قيام الحوادث لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلما فإن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها وهو ممتنع فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعالا بمشيئته أو متكلما بمشيئته
وأما أئمة السنة والحديث كعبد الله بن المبارك واحمد بن حنبل وغيرهما فقالوا لم يزل الرب متكلما اذا شاء وكيف شاء فذكروا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه لم يزل كذلك وهذا يناقض الاصل الذي اشترك فيه المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن تلقى عنهم فلا هم موافقون للكتاب والسنة وكلام السلف لا فيما اتفقوا عليه ولا فيما تنازعوا فيه ولهذا يوجد في عامة أصول الدين لكل منهم قول وليس في أقوالهم ما يوافق الكتاب والسنة كأقوالهم في كلام الله واقوالهم في ارادته ومشيئته وفي علمه وفي قدرته وفي غير ذلك من صفاته وإن كان بعضهم اقرب الى السنة والسلف من بعض ولكن قد شاع ذلك بين أهل العلم والدين منهم فكثير من أهل العلم والدين المنتسبين الى السنة والجماعة من قد يوافقهم على بعض أقوالهم في مسألة القرآن أو
النبوات [ جزء 1 - صفحة 147 ]
غيرهما اذ كان لا يعرف الا ذلك القول أو ما هو أبعد عن السنة منه اذ كانوا في كتبهم لا يحكون غير ذلك اذ كانوا لا يعرفون السنة واقوال الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة لا يعرفون الا قولهم وقول من يخالفهم من أهل الكلام ويظنون أنه ليس للامة الا هذان القولان أو الثلاثة وهم يعتمدون في السمعيات على ما يظنونه من الاجماع وليس لهم معرفة بالكتاب والسنة بل يعتمدون على القياس العقلي الذي هو أصل كلامهم وعلى الاجماع واصل كلامهم العقلي باطل والاجماع الذين يظنونه انما هو اجماعهم واجماع نظرائهم من أهل الكلام ليس هو إجماع أمة محمد ولا علمائها والله تعالى إنما جعل العصمة للمؤمنين من أمة محمد فهم الذين لا يجتمعون على ضلالة ولا خطأ كما ذكر على ذلك الدلائل الكثيرة وكل ما اجتمعوا عليه فهو مأثور عن الرسول فإن الرسول بين الدين كله وهم معصومون أن يخطئوا كلهم ويضلوا عما جاء به محمد بل هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يبقى معروف الا أمروا به ولا منكر الا نهوا عنه وهم أمة وسط عدل خيار شهداء الله في الارض فلا يشهدون الا بحق فإجماعهم هو على علم موروث عن الرسول جاء من عند الله وذلك لا يكون الا حقا وأما من كان إجماعهم على ما ابتدعه رأس من رءوسهم فيجوز أن يكون إجماعهم خطأ اذ ليسوا هم المؤمنين ولا أمة محمد وانما هم فرقة منهم واذا قيل المعتبر من أمة محمد بعلمائها قيل اذا اتفقت علماؤها على شيء فالباقون يسلمون لهم ما اتفقوا عليه لا ينازعونهم فيه فصار هذا اجماعا من المؤمنين ومن نازعهم بعلم فهذا لا يثبت الاجماع دونه كائنا من كان وأما من ليس من أهل العلم فيما تكلموا فيه فذاك وجوده كعدمه وقول من قال الاعتبار بالمجتهدين دون غيرهم وأنه لا يعتبر بخلاف أهل الحديث أو أهل الاصول ونحوهم كلام لا حقيقة له فإن المجتهدين ان أريد بهم من له قدرة على معرفة جميع الأحكام بأدلتها فليس في الأمة من هو كذلك بل أفضل الأمة كان يتعلم ممن هو دونه شيئا من السنة ليس عنده وإن عني به من يقدر على معرفة الاستدلال على الاحكام في الجملة فهذا موجود في كثير من أهل الحديث والاصول والكلام وإن كان بعض الفقهاء أمهر منهم بكثير من الفروع أو بأدلتها الخاصة أو بنقل الاقوال فيها فقد يكون أمهر منه في معرفة اعيان الادلة كالأحاديث
النبوات [ جزء 1 - صفحة 148 ]
والفرق بين صحيحها وضعيفها ودلالات الالفاظ عليها والتمييز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل وبالجملة العصمة إنما هي للمؤمنين لامة محمد لا لبعضهم لكن اذا اتفق علماؤهم على شيء فسائرهم موافقون للعلماء واذا تنازعوا ولو كان المنازع واحدا وجب رد ما تنازعوا فيه الى الله والرسول وما أحد شذ بقول فاسد عن الجمهور الا وفي الكتاب والسنة ما يبين فساد قوله وإن كان القائل كثيرا كقول سعيد في أن المطلقة ثلاثا تباح بالعقد فحديث عائشة في الصحيحين يدل على خلافه مع دلالة القرآن أيضا وكذلك غيره وأما القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة فلا يكون شاذا وأن القائل به أقل من القائل بذاك القول فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان يردون على من أخطأ بالكتاب والسنة لا يحتجون بالإجماع الا علامة وقد يبعث معه نشابه أو سيفه أو شيئا من السلاح المختص به أو يركبه دابته المختصة به ونحو ذلك مما يعلم الناس أنه قصد به تخصيصه وإن كانت تلك الافعال تفعل مع أمثاله وقد تفعل لغير الرسول ممن يقصد اكرامه وتشريفه لكن هي خارقة لعادته بمعنى أنه لم يعتد أن يفعل ذلك مع عموم الناس ولا يفعله الا مع من ميزه بولاية أو رسالة أو وكالة والولاية والوكالة تتضمن الرسالة فكل من هؤلاء هو في معنى رسوله الى من ولاه أني قد وليته والى من أرسله بأني أرسلته فهذه عادة معروفة في العلامات والدلائل التي يبين بها المرسل أن هذا رسولي وجنس خرق العادة لا يستلزم الاكرام بل تخرق عادته بالاهانة تارة وبالاكرام أخرى فقد يخرج ويركب في وقت لم تجر عادته به بل لعقوبة قوم وآيات الرب تعالى قد تكون تخويفا لعبادة كما قال وما نرسل بالآيات الا تخويفا وقد يهلك بها كما أهلك أمما مكذبين واذا قص قصصهم قال ان في ذلك لآيات وكان إهلاكهم خرقا للعادة دل بها على أنه عاقبهم بذنوبهم وتكذيبهم للرسل وأن ما فعلوه من الذنوب مما ينهى عنه ويعاقب فاعله بمثل تلك العقوبة فهذه خرق عادات لاهانة قوم وعقوبتهم لما فعلوه من الذنوب تجري مجرى قوله عاقبتهم لأنهم كذبوا رسولي وعصوه ولهذا يقول سبحانه كلما قص قصة من كذب رسله وعقوبته إياهم يقول فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا
النبوات [ جزء 1 - صفحة 149 ]
القرآن للذكر فهل من مدكر كما يقول في موضع آخر إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين و إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم واذا كانت تلك العلامات مما جرت عادته انه يفعلها مع من أرسله ويهلك بها من كذب رسله كانت أبلغ في الدلالة وكانت معتادة في هذا النوع وهؤلاء تكلموا بلفظ لم يحققوا معناه وهو لفظة خرق العادة وقالوا العادات تنقسم الى عامة وخاصة فمنها ما يشترك فيه جميع الناس في جميع الأعصار كالاكل والشرب واتقاء الحر والبرد والخاص منها ما يكون كعادة للملائكة فقط أو للجن فقط أو للانس دون غيرهم قالوا ولهذا صح أن يكون لكل قبيل منهم ضرب من التحدي وخرق لما هو عادة لهم دون غيرهم وحجة عليهم دون ما سواهم ومنها ما يكون عادة لبعض البشر نحو اعتياد بعضهم صناعة أو تجارة أو رياضة في ركوب الخيل والعمل بالسلاح لكن هذه كلها مقدورات للبشر قالوا وآية الرسل لا تكون مقدورة لمخلوق بل لا تكون الا مما ينفرد الله بالقدرة عليه فاذا قالوا هذا ظن الظان أنهم اشترطوا أمرا عظيما ولم يشترطوا شيئا فإنهم قالوا في جنس الأفعال التي لا تقدر الناس الا على اليسير منها كحمل الجبال ونقلها أن المعجزة هنا إقدارهم على الفعل لا نفس الفعل ورجحوا هذا على قول من يقول نفس الفعل آية لأن جنس الفعل مقدور وليس هذا بفرق طائل فإنه لا فرق بين تخصيصهم بالفعل أو بالقدرة عليه فاذا كان إقدارهم على الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة كان نفس الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة وهؤلاء عندهم أن قدرة العباد لا تؤثر في وجود شيء ولا يكون مقدورها الا في محلها فهم في الحقيقة لم يثبتوا قدرة فكل ما في الوجود هو مقدور لله عندهم ولهذا عدل ابو المعالي ومن اتبعه كالرازي عن هذا الفرق فلم يشترطوا أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه وإذ كانت جميع الحوادث عندهم كذلك وقالوا ان ما يحصل على يد الساحر والكاهن وعامل الطلسمات وعند الطبيعة الغريبة هو مما ينفرد الرب بالقدرة عليه ويكون آية للنبي وهذا معتاد لغير الانبياء فلم يبق لقولهم خرق للعادة معنى معقول بل قالوا واللفظ للقاضي أبي بكر الواجب على هذا الاصل أن يكون
النبوات [ جزء 1 - صفحة 150 ]
خرق العادة الذي يفعله الله مما يخرق عادة جميع القبيل الذين تحداهم الرسول بمثله ويحتج به على نبوته فإن أرسل ملكا الى الملائكة أظهر على يده ما هو خرق لعادتهم وإن أرسل بشرا أرسله بما يخرق عادة البشر وان أرسل جنيا أظهر على يديه ما هو خارق لعادة الجن فيقال السحر والكهانة معتاد للبشر وأنتم تقولون يجوز أن يكون ما يأتي به الساحر والكاهن آية بشرط أن لا يمكن معارضته فلم يبق لكونه خارقا للعادة معنى يعقل عندكم ولهذا قال محققوهم انه لا يشترط في الآيات أن تكون خارقة للعادة كما قد حكينا لفظهم في غير هذا الموضع كما تقدم وانما الشرط أنها لا تعارض وأن تقترن بدعوى النبوة هذان الشرطان هما المعتبران وقد بينا في غير موضع أن كلا من الشرطين باطل والاول يقتضي أن يكون المدلول عليه جزءا من الدليل
وآيات النبوة أنواع متعددة منها ما يكون قبل وجوده ومنها ما يكون بعد موته ومنها ما يكون في غيبته والمقصود هنا كان هو الكلام على المثال الذي ذكروه وأن ما ضرب من الامثلة على الوجه الصحيح فانه ولله الحمد يدل على صدق الرسول وعلى فساد أصولهم ولكن هم ضربوا مثالا اذا اعتبر على الوجه الصحيح كان حجة ولله الحمد على صدق النبي وعلى فساد ما ذكروه في المعجزات حيث قالوا هي الفعل الخارق للعادة المقترن بدعوى النبوة والاستدلال به وتحدي النبي من دعاهم أن يأتوا بمثله وشرط بعضهم أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه وهذه الاربعة هي التي شرط القاضي أبو بكر ومن سلك مسلكه كابن اللبان وابن شاذان والقاضي أبي يعلى وغيرهم أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه على أحد القولين أو منه ومن الجنس الآخر اذا وقع على وجه يخرق العادة وطريق متعذر على غيرهم مثله على القول الآخر قالوا وهذا لفظ القاضي أبي بكر والثاني أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة وينقضها ومتى لم يكن كذلك لم يكن معجزا والثالث أن يكون غير النبي ممنوعا من إظهار ذلك على يده على الوجه الذي ظهر عليه ودعا الى معارضته مع كونه خارقا للعادة والرابع أن يكون واقعا مفعولا عند تحدي الرسول بمثله وادعائه آية لنبوته وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذبه
النبوات [ جزء 1 - صفحة 151 ]
قالوا فهذه هي الشرائط والأوصاف التي تختص بها المعجزات
فيقال لهم الشرط الاول قد عرف أنه لا حقيقة له ولهذا أعرض عنه أكثرهم والثاني أيضا لا حقيقة له فإنهم لم يميزوا ما يخرق العادة مما لا يخرقها ولهذا ذهب من ذهب من محققيهم الى الغاء هذا الشرط فهم لا يعتبرون خرق عادة جميع البشر بل ما اعتاده السحرة والكهان وأهل الطلاسم عندهم يجوز أن يكون آية إذا لم يعارض وما اعتاده أهل صناعة أو علم أو شجاعة ليس هو عندهم آية وإن لم يعارض فالامور العجيبة التي خص الله بالأقدار عليها بعض الناس لم يجعلوها خرق عادة والامور المحرمة أو هي كفر كالسحر والكهانة والطلمسات جعلوها خرق عادة وجعلوها آية بشرط أن لا يعارض وهو الشرط الثالث وهو في الحقيقة خاصة المعجزة عندهم لكن كون غير الرسول ممنوعا منه أن اعتبروا أنه ممنوع مطلقا فهذا لا يعلم وإن اعتبروا انه ممنوع من المرسل اليهم فهذا لا يكفي بل يمكن كل ساحر وكاهن أن يدعي النبوة ويقول أنني كذا قالوا لو فعل هذا لكان الله يمنعه فعل ذلك أو يقيض له من يعارضه قلنا من أين لكم ذلك ومن أين يعلم الناس ذلك ويعلمون ان كل كاذب فلا بد أن يمنع من فعل الامر الذي اعتاده هو وغيره قبل ذلك أو أن يعارض والواقع خلاف ذلك فما أكثر من ادعى النبوة أو الاستغناء عن الانبياء وأن طريقه فوق طريق الانبياء وأن الرب يخاطبه بلا رسالة وأتى بخوارق من جنس ما تأتي السحرة والكهان ولم يكن فيمن دعاه من يعارضه
وأما الرابع وهو أن يكون عند تحدي الرسول فبه يحترزون عن الكرامات وهو شرط باطل بل آيات الانبياء آيات وإن لم ينطقوا بالتحدي بالمثل وهي دلائل على النبوة وصدق المخبر بها والدليل مغاير للمدلول عليه ليس المدلول عليه جزءا من الدليل لكن اذا قالوا الدليل هو دعاء الرسول لزمه أن يريهم آية وخلق تلك الآية عقب سؤاله وإن كان ذلك قد يخلقه بغير سؤاله لحكمة أخرى فهذا متوجه فالدليل هو مجموع طلب العلامة مع فعل ما جعله علامة كما ان العباد اذا دعوا الله فأجابهم كان ما فعله إجابة لدعائهم ودليلا على أن الله سمع دعاءهم وأجابهم كما أنهم اذا استسقوه فسقاهم واستنصروه فنصرهم وإن كان قد يفعل ذلك بلا دعاء فلا يكون
النبوات [ جزء 1 - صفحة 152 ]
هناك دليل على إجابة دعاء فهو دليل على إجابة الدعاء اذا وقع عقب الدعاء ولا يكون دليلا اذا وقع على غير هذا الوجه وكذلك الرسول اذا قال لمرسله أعطني علامة فأعطاه ما شرفه به كان دليلا على رسالته وإن كان قد يفعل ذلك لحكمة أخرى لكن فعل ذلك عقب سؤاله آية لنبوته هو الذي يختص به وكذلك اذا علم أنه فعله اكراما له مع دعواه النبوة علم أنه قد أكرمه بما يكرم به الصادقين عليه فعلم أنه صادق لأن ما فعله به مختص بالصادقين الابرار دون الكاذبين عليه الفجار وعلى هذا فكرامات الاولياء هي من آيات الانبياء فإنها مختصة بمن شهد لهم بالرسالة وكل ما استلزم صدق الشهادة بنبوتهم فهو دليل على صدق هذه الشهادة سواء كان الشاهد بنبوتهم المخبر بها هم أو غيرهم بل غيرهم إذا أخبر بنبوتهم وأظهر الله على يديه ما يدل على صدق هذا الخبر كان هذا أبلغ في الدلالة على صدقهم من أن يظهر على أيديهم فقد تبين أنه ليس من شرط دلائل النبوة لاقترانه بدعوى النبوة ولا الاحتجاج به ولا التحدي بالمثل ولا تقريع من يخالفه بل كل هذه الامور قد تقع في بعض الآيات لكن لا يجب أن ما لا يقع معه لا يكون آية بل هذا إبطال لاكثر آيات الانبياء لخلوها عن هذا الشرط ثم هو شرط بلا حجة فان الدليل على المدلول عليه هو ما استلزم وجوده وهذا لا يكون الا عند عدم المعارض المساوي او الراجح وما كان كذلك فهو دليل سواء قال المستدل به ائتوا بمثله وانتم لا تقدرون على الاتيان بمثله وقرعهم وعجزهم أو لم يقل ذلك فهو اذا كان في نفسه مما لا يقدرون على الاتيان بمثله سواء ذكر المستدل هذا أو لم يذكره لا بذكره يصير دليلا ولا بعدم ذكره تنتفي دلالته وهؤلاء قالوا لا يكون دليلا الا اذا ذكره المستدل وهذا باطل وكذلك الدليل هو دليل سواء استدل به مستدل أو لم يستدل وهؤلاء قالو لا يكون دليل النبوة دليلا الا اذا استدل به النبي حين ادعى النبوة فجعل نفس دعواه واستدلاله والمطالبة بالمعارضة وتقريعهم بالعجز عنها كلها جزءا من الدليل وهذا غلط عظيم بل السكوت عن هذه الامور أبلع في الدلالة والنطق بها لا يقوي الدليل والله تعالى لم يقل فليأتوا بحديث مثله الا حين قالوا افتراه لم يجعل هذا القول شرطا في الدليل بل نفس عجزهم عن المعارضة هو من تمام الدليل وهم أنما شرطوا ذلك لأن كرامات
النبوات [ جزء 1 - صفحة 153 ]
الأولياء عندهم متى اقترن بها دعوى النبوة كانت آية للنبوة وجنس السحر والكهانة متى اقترن به دعوى النبوة كان دليلا على النبوة عندهم لكن قالوا الساحر والكاهن لو ادعى النبوة لكان يمتنع من ذلك أو يعارض بمثله وأما الصالح فلا يدعي فكان أصلهم أن ما يأتي به النبي والساحر والكاهن والولي من جنس واحد لا يتميز بعضه عن بعض بوصف لكن خاصة النبي اقتران الدعوى والاستدلال والتحدي بالمثل بما يأتي به فلم يجعلوا لآيات الانبياء خاصة تتميز بها عن السحر والكهانة وعما يكون لآحاد المؤمنين ولم يجعلوا للنبي مزية على عموم المؤمنين ولا على السحرة والكهان من جهة الآيات التي يدل الله بها العباد على صدقه وهذا افتراء عظيم على الانبياء وعلى آياتهم وتسوية بين أفضل الخلق وشرار الخلق بل تسوية بين ما يدل على النبوة وما يدل على نقيضها فإن ما يأتي به السحرة والكهان لا يكون الا لكذاب فاجر عدو لله فهو مناقض للنبوة فلم يفرقوا بين ما يدل على النبوة وعلى نقيضها وبين مالا يدل عليها ولا على نقيضها فإن آيات الانبياء تدل على النبوة وعجائب السحرة والكهان تدل على نقيض النبوة وأن صاحبها ليس ببر ولا عدل ولا ولي لله فضلا عن أن يكون نبيا بل يمتنع أن يكون الساحر والكاهن نبيا بل هو من أعداء الله والانبياء أفضل خلق الله وايمان المؤمنين وصلاحهم لا يناقض النبوة ولا يستلزمها فهؤلاء سووا بين الاجناس الثلاثة فكانوا بمنزلة من سوى بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان والاوثان فإن الكهان والسحرة يأمرون بالشرك وعبادة الاوثان وما فيه طاعة للشيطان والانبياء لا يأمرون الا بعبادة الله وحده وينهون عن عبادة ما سوى الله وطاعة الشياطين فسوى هؤلاء بين هذا وهذا ولم يبق الفرق الا مجرد تلفظ المدعي بأني نبي فإن تلفظ به كان نبيا وإن لم يتلفظ به لم يكن نبيا فالكذاب المتنبي اذا أتى بما يأتي الساحر والكاهن وقال أنا نبي كان نبيا وقولهم إنه اذا فعل ذلك منع منه وعورض دعوى مجردة فهي لا تقبل لو لم يعلم بطلانها فكيف وقد علم بطلانها وإن كثيرا ادعوا ذلك ولم يعارضهم ممن ادعوه أحد ولا منعوا من ذلك فلزم على قول هؤلاء التسوية بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب وقد قال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق اذ جاءه أليس في جهنم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 154 ]
مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ولم يفرق هؤلاء بين هؤلاء وهؤلاء ولا بين آيات هؤلاء وآيات هؤلاء وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى اذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون فنسأل الله العظيم أن يهدينا الى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين عبدوه وحده لا شريك له وآمنوا بما أرسل به رسله وبما جاءوا به من الآيات وفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد وطريق أولياء الله المتقين وأعداء الله الضالين والمغضوب عليهم فكان ممن صدق الرسل فيما اخبروا به وأطاعهم فيما أمروا به ولا حول ولا قوة إلا بالله
وهؤلاء يجوزون أن يامر الله بكل شيء وأن ينهى عن كل شيء فلا يبقى عندهم فرق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب لا من جهة نفسه فإنهم لا يشترطون فيه الا مجرد كونه في الباطن مقرا بالصانع وهذا موجود في عامة الخلق ولا من جهة آياته ولا من جهة ما يأمر به والفلاسفة من هذا الوجه أجود قولا في الانبياء فإنهم يشترطون في النبي اختصاصه بالعلم من غير تعلم وبالقدرة على التأثير الغريب والتخييل ويفرقون بين الساحر والنبي بأن النبي يقصد العدل ويأمر به بخلاف الساحر ولهذا عدل الغزالي في النبوة عن طريق أولئك المتكلمين الى طريق الفلاسفة
النبوات [ جزء 1 - صفحة 155 ]
فاستدل بما يفعله النبي ويأمر به على نبوته وهي طريق صحيحة لكن انما أثبت بها نبوة مثل نبوة الفلاسفة وأولئك خير من الفلاسفة من جهة أنهم لما أقروا بنبوة محمد صدقوه فيما أخبر به من أمور الانبياء وغيرهم وكان عندهم معصوما من الكذب فيما يبلغه عن الله فانتفعوا بالشرع والسمعيات وبها صار فيهم من الاسلام ما تميزوا به على أولئك فإن أولئك لا ينتفعون بأخبار الانبياء اذ كانوا عندهم يخاطبون الجمهور بالتخييل فهم يكذبون عندهم للمصلحة ولكن آخرون سلكوا مسلك التأويل وقالوا انهم لا يكذبون ولكن أسرفوا فيه ففي الجملة ظهور الفلاسفة والملاحدة والباطنية على هؤلاء تارة ومقاومتهم لهم تارة لا بد له من أسباب في حكمة الرب وعدله ومن أعظم اسبابه تفريط أولئك وجهلهم بما جاء به الانبياء فالنبوة التي ينتسبون الى نصرها لم يعرفوها ولم يعرفوا دليلها ولا قدروها قدرها وهذا يظهر من جهات متعددة ولا حول ولا قوة إلا بالله
فصل قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم قد بينها الله في القرآن أحسن بيان وبين دلائ
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات