كتاب الشرح الممتع،
قال ابن عثيمين :
بـاب الغسل
أي: باب ما يوجبه، وصفته، فالباب جامع للأمرين.
قوله: "وموجبه" بالكسر، أي: الشيء الذي يوجب الغسل، يقال: موجب بكسر الجيم وفتحها.
فبالكسر: هو الذي يوجب غيره.
وبالفتح: هو الذي وجب بغيره، كما يقال: مقتضي بكسر الضاد: الذي يقتضي غيره، ومقتضى بفتحها: الذي اقتضاه غيره.
قوله: "خروج المني دفقا بلذة". هذا هو الموجب الأول(1).
والدليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} والجنب: هو الذي خرج منه المني دفقا بلذة.
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء"(1) المراد بالماء الأول ماء الغسل؛ عبر به عنه، وبالماء الثاني المني، أي: إذا خرج المني وجب الغسل.
وظاهر الحديث أنه يجب الغسل سواء خرج دفقا بلذة، أم لا، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله: أن خروج المني مطلقا موجب للغسل حتى ولو بدون شهوة وبأي سبب خرج(2)، لعموم الحديث، وجمهور أهل العلم: يشترطون لوجوب الغسل بخروجه أن يكون دفقا بلذة(3).
وقال بعض العلماء: بلذة. وحذف "دفقا" وقال: إنه متى كان بلذة فلا بد أن يكون دفقا(4).
وذكر الدفق أولى لموافقة قوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق 5 خلق من ماء دافق {الطارق: 5، 6}.
فإذا خرج من غير لذة من يقظان فإنه لا يوجب الغسل على ما قاله المؤلف، وهو الصحيح.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث "الماء من الماء".
قلنا: إنه يحمل على المعهود المعروف الذي يخرج بلذة، ويوجب تحلل البدن وفتوره، أما الذي بدون ذلك، فإنه لا يوجب تحلله ولا فتوره، ولهذا ذكروا لهذا الماء ثلاث علامات(1):
الأولى: أن يخرج دفقا.
الثانية: الرائحة، فإذا كان يابسا فإن رائحته تكون كرائحة البيض، وإذا كان غير يابس فرائحته تكون كرائحة العجين واللقاح(2).
الثالثة: فتور البدن بعد خروجه.
قوله: "لا بدونهما" الضمير يعود على الدفق، واللذة.
قوله: "من غير نائم" أي: من اليقظان، فإذا خرج من اليقظان بلا لذة، ولا دفق، فإنه لا غسل عليه.
وعلم منه: أنه إن خرج من نائم وجب الغسل مطلقا، سواء كان على هذا الوصف أم لم يكن، لأن النائم قد لا يحس به، وهذا يقع كثيرا أن الإنسان إذا استيقظ وجد الأثر، ولم يشعر باحتلام، والدليل على ذلك أن أم سليم ـ رضي الله عنها ـ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه، هل عليها غسل؟ قال: "نعم، إذا هي رأت الماء" (1) فأوجب الغسل إذا هي رأت الماء، ولم يشترط أكثر من ذلك، فدل على وجوب الغسل على من استيقظ ووجد الماء سواء أحس بخروجه أم لم يحس، وسواء رأى أنه احتلم أم لم ير، لأن النائم قد ينسى، والمراد بالماء هنا المني.
فإذا استيقظ ووجد بللا فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقن أنه موجب للغسل، يعني: أنه مني، وفي هذه الحال يجب عليه أن يغتسل سواء ذكر احتلاما أم لم يذكر.
الثانية: أن يتيقن أنه ليس بمني، وفي هذه الحال لا يجب الغسل، لكن يجب عليه أن يغسل ما أصابه، لأن حكمه حكم البول.
الثالثة: أن يجهل هل هو مني أم لا؟ فإن وجد ما يحال عليه الحكم بكونه منيا، أو مذيا أحيل الحكم عليه، وإن لم يوجد فالأصل الطهارة، وعدم وجوب الغسل، وكيفية إحالة الحكم أن يقال: إن ذكر أنه احتلم فإننا نجعله منيا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه؛ هل عليها غسل؟ قال: "نعم، إذا هي رأت الماء"(1) وإن لم ير شيئا في منامه، وقد سبق نومه تفكير في الجماع جعلناه مذيا، لأنه يخرج بعد التفكير في الجماع دون إحساس، وإن لم يسبقه تفكير ففيه قولان للعلماء:
قيل: يجب أن يغتسل احتياطا(2).
وقيل: لا يجب(2) وقد تعارض هنا أصلان.
قوله: "وإن انتقل ولم يخرج، اغتسل له" أي: المني، يعني: أحس بانتقاله لكنه لم يخرج، فإنه يغتسل، لأن الماء باعد محله، فصدق عليه أنه جنب، لأن أصل الجنابة من البعد.
وهل يمكن أن ينتقل بلا خروج؟
نعم يمكن؛ وذلك بأن تفتر شهوته بعد انتقاله بسبب من الأسباب فلا يخرج المني.
ومثلوا بمثال آخر: بأن يمسك بذكره حتى لا يخرج المني، وهذا وإن مثل به الفقهاء فإنه مضر جدا، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ يمثلون بالشيء للتصوير بقطع النظر عن ضرره أو عدم ضرره، على أن الغالب في مثل هذا أن يخرج المني بعد إطلاق ذكره.
وقال بعض العلماء: لا غسل بالانتقال(1)، وهذا اختيار شيخ الإسلام(2) وهو الصواب، والدليل على ذلك ما يلي:
1ـ حديث أم سلمة وفيه: "نعم، إذا هي رأت الماء"(3) ولم يقل: أو أحست بانتقاله، ولو وجب الغسل بالانتقال لبينه صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة لبيانه.
2ـ حديث أبي سعيد الخدري:" إنما الماء من الماء"(4) ، وهنا لا يوجد ماء، والحديث يدل على أنه إذا لم يكن ماء فلا ماء.
3ـ أن الأصل بقاء الطهارة، وعدم موجب الغسل، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل.
قوله: "فإن خرج بعده لم يعده" أي: إذا اغتسل لهذا الذي انتقل ثم خرج مع الحركة، فإنه لا يعيد الغسل. والدليل:
1ـ أن السبب واحد، فلا يوجب غسلين.
2ـ أنه إذا خرج بعد ذلك خرج بلا لذة، ولا يجب الغسل إلا إذا خرج بلذة.
لكن لو خرج مني جديد لشهوة طارئة فإنه يجب عليه الغسل بهذا السبب الثاني.
قوله: "وتغييب حشفة أصلية" هذا الموجب الثاني من موجبات الغسل.
وتغيب الشيء في الشيء معناه: أن يختفي فيه.
وقوله: "أصلية" يحترز بذلك عن حشفة الخنثى المشكل، فإنها لا تعتبر حشفة أصلية. فلو غيبها في فرج أصلي أو غير أصلي فلا غسل عليهما.
والخنثى المشكل: من لا يعلم أذكر هو أم أنثى، مثل: أن يكون له آلة ذكر وآلة أنثى، ويبول منهما جميعا، فإنه مشكل، وقد يتضح بعد البلوغ، وما دام على إشكاله فإن فرجه ليس أصليا.
قوله: "في فرج أصلي" احترازا من فرج الخنثى المشكل، فإنه لا يعتبر تغييب الحشفة فيه موجبا للغسل، لأن ذلك ليس بفرج.
فإذا غيب الإنسان حشفته في فرج أصلي، وجب عليه الغسل أنزل أم لم ينزل.
والدليل على ذلك: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل" أخرجه الشيخان(1).
وفي لفظ لمسلم: "وإن لم ينزل"(2) وهذا صريح في وجوب الغسل وإن لم ينزل، وهذا يخفى على كثير من الناس، فتجد الزوجين يحصل منهما هذا الشيء، ولا يغتسلان، ولا سيما إذا كانا صغيرين ولم يتعلما، وهذا بناء على ظنهم عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال، وهذا خطأ.
قوله:"قبلا كان أو دبرا". وطء الدبر حرام للزوج، وغيره من باب أولى ، وهذا من باب التمثيل فقط، وقد سبق أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يمثلون بالشيء بقطع النظر عن حله، أو حرمته(1) ويعرف حكمه من محل آخر.
قوله: "ولو من بهيمة أو ميت". "لو": إشارة خلاف، فمن أهل العلم من قال: يشترط لوجوب الغسل بالجماع أن يكون في فرج من آدمي حي.(2) وعلى هذا الرأي لو أولج بفرج امرأة ميتة ـ مع أنه يحرم ـ فعليه الغسل، ولو أولج في بهيمة فعليه الغسل.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجب الغسل بوطء الميتة إلا إذا أنزل(2). والدليل: قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها" وهذا لا يحصل إذا كانت ميتة، لأنه لا يجهدها.
وأيضا: تلذذه بها غير تلذذه بالحية.
أما البهيمة فالأمر فيها أبعد وأبعد، لأنها ليست محلا لجماع الآدمي بمقتضي الفطرة، ولا يحل جماعها بحال.
وهل يشترط عدم وجود الحائل؟
قال بعض العلماء: يشترط أن يكون ذلك بلا حائل(1)، لأنه مع الحائل لا يصدق عليه أنه مس الختان الختان، فلا يجب الغسل.
وقال آخرون: يجب الغسل(1) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم جهدها" والجهد يحصل ولو مع الحائل.
وفصل آخرون فقالوا: إن كان الحائل رقيقا بحيث تكمل به اللذة وجب الغسل، وإن لم يكن رقيقا فإنه لا يجب الغسل(1)، وهذا أقرب، والأولى' والأحوط أن يغتسل.
قوله: "وإسلام كافر" . هذا هو الموجب الثالث من موجبات الغسل، وهو إسلام الكافر، وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل سواء كان أصليا، أو مرتدا.
فالأصلي: من كان من أول حياته على غير دين الإسلام كاليهودي والنصراني، والبوذي، وما أشبه ذلك.
والمرتد: من كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه ـ نسأل الله السلامة ـ كمن ترك الصلاة، أو اعتقد أن و شريكا، أو دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يغيثه من الشدة، أو دعا غيره أن يغيثه في أمر لا يمكن فيه الغوث.
والدليل على وجوب الغسل بذلك:
1ـ حديث قيس بن عاصم أنه لـما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر(1) والأصل في الأمر الوجوب.
2ـ أنه طهر باطنه من نجس الشرك، فمن الحكمة أن يطهر ظاهره بالغسل.
وقال بعض العلماء : لا يجب الغسل بذلك(2)، واستدل على ذلك بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عام مثل: من أسلم فليغتسل، كما قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل"(3) وما أكثر الصحابة الذين أسلموا، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالغسل أو قال من أسلم فليغتسل، ولو كان واجبا لكان مشهورا لحاجة الناس إليه.
وقد نقول: إن القول الأول أقوى وهو وجوب الغسل، لأن أمرالنبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة بحكم ليس هناك معنى معقول لتخصيصه به أمر للأمة جميعا، إذ لا معنى لتخصيصه به. وأمره صلى الله عليه وسلم لواحد لا يعني عدم أمر غيره به.
وأما عدم النقل عن كل واحد من الصحابة أنه اغتسل بعد إسلامه، فنقول: عدم النقل، ليس نقلا للعدم؛ لأن الأصل العمل بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن ينقل العمل به من كل واحد.
وقال بعض العلماء : إن أتى في كفره بما يوجب الغسل كالجنابة مثلا وجب عليه الغسل سواء اغتسل منها أم لا، وإن لم يأت بموجب لم يجب عليه الغسل(1).
وقال آخرون: إنه لا يجب عليه الغسل مطلقا، وإن وجد عليه جنـابة حال كفره ولم يغتسل منها(1)، لأنه غير مأمور بشـرائع الإسلام.
والأحوط أن يغتسل؛ لأنه إن اغتسل وصلى فصلاته صحيحة على جميع الأقوال، ولو صلى ولم يغتسل ففي صحة صلاته خلاف بين أهل العلم.
قوله: "وموت" هذا هو الموجب الرابع من موجبات الغسل.
أي: إذا مات المسلم وجب على المسلمين غسله، والدليل على ذلك: 1ـ قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته ناقته بعرفة: "اغسلوه بماء وسدر..."(1) والأصل في الأمر الوجوب.
2ـ حديث أم عطية حين ماتت ابنته وفيه: "اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك"(1).
وهذا الحديث قد ينازع فيه بأن يقال: إن المقصود من تغسيل الميت فيه التنظيف، لأن التعبد بالطهارة حده ثلاث، ولا يوكل إلى رأي الإنسان، وفي هذا الحديث وكل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إلى رأيهن.
وقد يقال: إنه وكل الأمر إلى رأيهن في زيادة عدد الغسلات لا في أصل الغسل، لكن الدليل الأول كاف في ذلك، بل إن تغسيل الأموات أمر معلوم بالضرورة، ومشهور شهرة يكاد يكونمتواترا.
وسواء مات فجأة، أم بحادث ، أم بمرض، أم كان صغيرا، أم كبيرا.
وهل يشمل السقط؟
فيه تفصيل: إن نفخت فيه الروح غسل، وكفن، وصلي عليه، . وإن لم تنفخ فيه الروح فلا.
وتنفخ الروح فيه إذا تم له أربعة أشهر؛ لحديث عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه، أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، بكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح"(1) وهذا لا يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بدون وحي إذ لا مدخل للاجتهاد فيه.
قوله: "وحيض". هو الموجب الخامس من موجبات الغسل، فإذا حاضت المرأة وجب عليها الغسل، وانقطاع الحيض شرط، فلو اغتسلت قبل أن تطهر لم يصح، إذ من شرط صحة الاغتسال الطهارة.
والدليل على وجوب الغسل من الحيض ما يلي:
1ـ حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس عادتها، ثم تغتسل وتصلي(1). والأصل في الأمر الوجوب.
ويشير إلى مطلق الفعل قوله تعالى: ولا تقربوهن حتى" يطهرن فإذا تطهرن ... الآية {البقرة: 222}، أي: اغتسلن، فهذا دليل على أن التطهر من الحيض أمر مشهور بين الناس، والآية وحدها لا تدل على الوجوب؛ ولكن حديث فاطمة ـ رضي الله عنها ـ دليل واضح على أنه يجب على المـرأة إذا حاضـت أن تغتسـل، لكن شرط الوجوب انقطاع الدم.
قوله: "ونفاس" هذا هو الموجب السادس من موجبات الغسل.
والنفاس: الدم الخارج مع الولادة أو بعدها، أو قبلها بيومين، أوثلاثة، ومعه طلق.
أما الدم الذي في وسط الحمل، أو في آخر الحمل ولكن بدون طــلق فليس بشيء، فتصلي وتصوم، ولا يحرم عليها شيء مما يحرم على النفساء.
والدليل على وجوب الغسل منه: أنه نوع من الحيض، ولهذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم اسم النفاس على الحيض؛ بقوله لعائشة لما حاضت: "لعلك نفست"(1).
وقد أجمع العلماء على وجوب الغسل بالنفاس كالحيض.
قوله:"لا ولادة عارية عن دم". "لا": عاطفة، تدل على النفي، أي: ليست الولادة العارية عن الدم موجبة للغسل، فلو أن امرأة ولدت، ولم يخرج منها دم فلا غسل عليها، لأن النفاس هو الدم، ولا دم هنا، وهذا نادر جدا.
وقال بعض العلماء: إنه يجب الغسل، والولادة هي الموجبة(2).
ولأن عدم الدم مع الولادة نادر، والنادر لا حكم له.
ولأن المرأة سوف يلحقها من الجهد والمشقة والتعب كما يلحقها في الولادة مع الدم .
قوله: "ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن". "من": اسم شرط جازم، وفعل الشرط: لزمه، وجوابه: حر
المصدر :
كتاب الشرح الممتع على زاد المستقنع
للعلامة محمد بن صالح العثيمين
عدد المجلدات : ٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق