بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه السادس عشر
ما ذكر في تفسير قصة موسى والوادي المقدس وتفسير ذلك
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 381 ]
فنقول هؤلاء المتفلسفة في العقول والنفوس قد أشملوا هذا من الأصول المخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى ما لا يتسع هذا الموضع لذكره مع أن دلالة هذه الألفاظ على تلك المعاني أفسد مما رده من التأويلات ونحن نعلم بالإضطرار من ملة المسلمين واليهود والنصارى أن الطور الذي كلم الله عليه موسى هو جبل من الجبال والطور الجبل وعلم بالاضطرار من دين أهل الملل والنقل بالتواتر أن الله لما كلم موسى كلمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة وأن موسى عليه السلام لما ضرب امرأته المخاض قال لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى طلب أن يجيء بجذوة نار أو يجد من يخبره وأنه سبحانه وتعالى كلمه وهو بالوادي المقدس طوى وعلم أن هذا التكليم الذي كلمه موسى لم يكلم غيره من الأنبياء والرسل إلا ما يذكر من مناجاة النبي ليلة المعراج وعلى ما ذكروه فلا فرق بين موسى وغيره من الأنبياء بل وغير الأنبياء قال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات
وقال تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 382 ]
تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
وقال تعالى في سباق ذكر الأنبياء واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا
وقد ذكر مناداته له ومناجاته إياه في مواضع من القرآن ولم يذكر أنه فعل ذلك بغيره من الأنبياء وهذا مما أجمع عليه المسلمون وأهل الكتاب أن تكليم الله تعالى لموسى من خصائصه التي فضيلة بها على غيره من الأنبياء والرسل
وفي الصحاح من الأحاديث مثل حديث الشفاعة ومحاجة آدم موسى وذكر فضيلته بتكليم الله تعالى إياه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 383 ]
وكذلك في حديث المعراج من رواية شريك عن أنس وهو في الصحيحين وهذا يطول
ثم السلف والأئمة ضللوا بل كفروا من قال إن الله خلق كلاما في الشجرة أو الهواء فسمعه موسى كما يقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم
ومعلوم أن هذا أقرب إلى أقوال الرسل من قول هؤلاء المتفلسفة الذين
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 384 ]
يزعمون أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النبي كما يفيض على سائر الأنبياء وغيرهم فإن هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام ولا ملائكة تنزل بكلامه بل عندهم لا تمييز بين موسى وهارون ولا بينهما وبين فرعون
فكيف يتصور على أصلهم أن يختص موسى برسالاته وكلامه غايته أن القلوب عندهم مثل آنية توضع تحت السماء فيقع فيها المطر أو نبات تنبسط عليه الشمس فتجففه فيكون ذلك بحسب القابل ولهذا يمكن عندهم أن يكلم كل واحد كما كلم موسى
وعندهم قد يسمع أحدهم ما سمعه موسى وقد ذكر ذلك صاحب المشكاة في غير هذا الموضع
وهذا القول لا ريب أنه يعلم بالإضطرار من دين الإسلام أنه باطل وقد بينا في غير هذا الموضع الشبهة الباطلة التي قالها من قالها من المتكلمين في سماع كلام الله ورؤيته حيث قالوا إن ذلك ليس إلا مجرد إدراك يحصل في نفس العبد من غير أسباب منفصلة عنه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 385 ]
وهذا مما أوقع الطائفة الاتحادية وغيرهم من المبتدعة في دعوى رؤيته في الدنيا
وهو أيضا مما يجريهم على دعوى مقام التكليم نعوذ بالله من الضلالة ونسأله الهدى والثبات عليه
وتجدهم قد فتحوا هذه الجرأة على الله فلا يزال أحد هؤلاء يدعي ما خص به المكلم في شريف مقامه الجليل ولا يميزون لضلالهم ونفاقهم بين ما يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه وبين أوليائه من الإلهام والحديث الذي يجب عرضه على الكتاب والسنة وبين تكليمه لنبيه موسى من وراء حجاب كما قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم
ففرق بين ما يوحيه والإيحاء الإعلام الخفي السريع وبين تكليمه لموسى من وراء حجاب نداء ونجاء وقد قال تعالى
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي
وقال وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 386 ]
محدثون فإن يكن في امتي فعمر فهذا وأمثاله مما يكون لغير الأنبياء
فأما تكليم الله تعالى لموسى فإنه لم يكن لعامة الرسل والأنبياء فضلا عمن سواهم
ولما كان هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم يجعلون كلام الله كله لموسى وغيره من الأنبياء ما يفيض على نفوسهم من العقل الفعال زادت الإتحادية درجة أخرى فجعلوا كلامه كل ما يظهر من شيء من الموجودات
وهؤلاء يصرح أحدهم بأن ما يسمعه من بشر مثله أعظم من تكليم الله لموسى لأن ذلك بزعمهم كلام الله من الشجرة وهي جماد وهذا كلام الله من الحيوان والحيوان أعظم من الجماد
وطائفة أخرى منهم يقولون إن الإلهام المجرد وهي المعاني التي تتنزل على قلوبهم أعظم من تكليم الله موسى لأن هذا بزعمهم خطاب محض بلا واسطة ولا حجاب وموسى خوطب بحجاب الحرف الصوت وأمثال هذا الكلام الذي يتضمن ترفع أحدهم عن تكليم الله لموسى الذي علم بالإضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أنه أعظم من خطابه وإيحائه لسائر الأنبياء والمرسلين ولهذا يقولون إن الولاية أعظم من النبوة والنبوة أعظم من الرسالة وينشدون
... مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 387 ]
ويقولون إن ولاية النبي أعظم من نبوته ونبوته أعظم من رسالته ثم قد يدعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا الولي يأخذ عن الله بغير واسطة والنبي والرسول بواسطة ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية والمكاشفات الربانية أعظم من تكليم موسى بن عمران وهو في الحقيقة إيحاءات شيطانية ووساوس نفسانية وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ولو هدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي ما يأخذه عن الرسول لا ما يأخذه عن قلبه وأن أفضل الأولياء الصديقون وأفضلهم أبو بكر وكان هو أفضل من عمر مع أن عمر كان محدثا كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وقال إن
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 388 ]
الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ومع هذا فالصديق إنما كان يتلقى من مشكاة النبوة فهو أفضل مطلقا لأن ما يأخذه عن معصوم من الخطأ والمحدث ليس بمعصوم بل يقع له الصواب والخطأ ولهذا يحتاج أن يزن بالميزان النبوي المعصوم جميع ما يقع له أي لغير الأخذ من مشكاة النبوة فهذا حال محدث السابقين الأولين وهو عمر بن الخطاب وهو أفضل من غيره والصديق أكمل منه وأتم مقاما فهذا حال خير السابقين الأولين وأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين فكيف بهؤلاء الذين فيهم من الباطل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال والإكرام وكذلك جعله أمره بخلع النعلين يتضمن ترك الدنيا والآخرة أمر لا يدل عليه لا حقيقة اللفظ ولا مجازه إن صح المجاز ولم يذكر عن أحد من المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين ولا من غيرهم إن ذلك مرادا من هذا اللفظ بل قد ذكروا أن سبب
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 389 ]
الأمر بخلعهما كونهما كانا من جلد حمار غير ذكي ثم هذا الخلع صار سنة اليهود عند عباداتهم ونحن قد أمرنا بمخالفتهم في ذلك فكيف يجعل مضمون هذا الخلع مشروعا لنا ونحن نأباه
وفي السنن عن النبي قال إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم
وفي الصحيحين عن أنس قال رأيت رسول الله يصلي في نعليه
وفي المسند وسنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال بينما رسول الله يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا
وقال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 390 ]
وفيهما أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا وطىء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور
وفي رواية إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب
فكثير من الناس يقول في تفضيل نبينا محمد ما مضمونه إن موسى أمر بخلع نعليه بالوادي المقدس ونبينا لم يؤمر بشيء ليلة المعراج مع علو درجته على موسى
ولو كان في ذلك أمر بترك الدنيا والآخرة لكان محمد مأمور بذلك وكان ذلك شرعا لنا
والتعبير عن هذه المعاني بهذه العبارات مع دعوى أنه بهذا المنزل حصل له الخطاب وهو الذي يوقع طوائف في بيداء الضلالات ظنا أن هذا المقام وما يشبهه ينال بالزهد أو غيره فيطلب أحدهم ما لا يصلح للأنبياء فضلا عن أن يصلح لأمثاله حتى يقع فيما هو من جنس حال أعظم المبتدعة بل حال الكفار والمنافقين قال أبو مجلز لاحق بن حميد في قوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين
قال إن يسأل الإنسان منازل الأنبياء
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 391 ]
وبمثل هذا ضل ابن قسي صاحب كتاب خلع النعلين
حتى ذكر في كتابه من أنواع الباطل ما ذكره وشرحه ابن عربي صاحب الفصوص فتارة يشتمه ويسبه ويقول إنه من أجهل الناس وتارة يجعل كلامه في نهاية التحقيق والعرفان
ومن المعلوم أنه لا بد في كلامه وكلام غيره من أمور صحيحة ومعان حسنة لكن هي متضمنة من الباطل والضلال ما يفوق الوصف
فإن أحد هؤلاء إن أمكنه أن يدعي الإلهية أو النبوة ولو بعبارة غريبة لا ينفر عنه الناس فعل حتى كان في زماننا غير واحد ممن اجتمع بي وأنكرت عليه وجرى لنا في القيام عليهم فصول ممن يدعي الرسالة ظانا أن هذا يسلم له إذا لم تسلم له النبوة فيدعون الرسالة فإذا جاء من يخاف منه من العلماء
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 392 ]
ادعى أحدهم الإرسال العام الكوني كإرسال الرياح وإرسال الشياطين وتارة يدعي إرسال الرسل كقصة صاحب يس أي في فترةصاحب يس
وقد وضح للعالم أن الرسالة التي وصف بها الأنبياء ممنوعة إذ هي أخص من النبوة وعلم أن النبوة بعد محمد منفية بقوله إن الله ختم بي النبوة والرسالة
وأما الإرسال الثاني فلا يكون مع مشافهة الرسول إلا في حياته وأما بعد موته فتبليغ القرآن والإيمان والسنة أمر مشترك
وتارة يدعي أحدهم أنه خاتم الأولياء ظانا أن خاتم الأولياء أفضلهم قياسا على خاتم الأنبياء ثم يدعون لخاتم الأولياء ما هو أعظم من النبوة والرسالة
وخاتم الأولياء كلمة لا حقيقة لفضلها ومرتبتها وإنما تكلم أبو عبد الله الترمذي بشيء من ذلك غلطا لم يسبق إليه ولم يتابع عليه ولم يستند فيه إلى شيء
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 393 ]
ومسمى هذا اللفظ هو آخر مؤمن يبقى ويكون بذلك خاتم الأولياء وليس ذلك أفضل الأولياء باتفاق المسلمين بل أفضل الأولياء سابقهم وأقربهم إلى الرسول وهو أبو بكر ثم عمر إذ الأولياء يستفيدون من الأنبياء فأقربهم إلى الرسول أفضل بخلاف خاتم الرسل فإنه الله أكرمه بالرسالة ولم يحله على غيره فقياس مسمى أحد اللفظين على الآخر في وجوب كونه أفضل من أبعد القياس
وتارة يدعي أحدهم المهدية أو القبطية ويقول أنا القطب الغوث الفرد الجامع ويدخل في هذه الأسماء ما هو من خصائص الربوبية مثل كونه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 394 ]
يعطي الولاية من يشاء ويصرفها عن من يشاء والله يقول لسيد ولد آدم إنك لا تهدي من أحببت
وقال ليس لك من الأمر من شيء
وقد بسطنا الكلام في هذه الأمور لحاجة الناس إلى ذلك في غير هذا الموضع
فصل
وهذا كله إذا ميز وجود القلم وغيره من المخلوقات عن وجود الرب تعالى كما عليه أهل الملل وجمهور العقلاء من غيرهم
وأما على قول هؤلاء المدعين التحقيق الذين يدعون أن الوجود
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 395 ]
واحد فلا يتميز وجود مبدع عن وجود مبدع ولا وجود خالق عن وجود مخلوق وهم يصرحون بهذا في كتبهم وفي كلامهم ولكنهم في حيرة وضلال فإنهم إذا يشهدون أن بين الموجودات تباينا وتفرقا فيريدون أن يجمعوا بين ما ادعوه من وحدة الوجود وبين التعدد للموجود فاضطربوا في ذلك
فأما صاحب الفصوص فكلامه يدور على أصلين
أحدهما أن الأشياء كلها ثابتة في العدم مستغنية بنفسها نظير قول من يقول المعدوم شيء ولكن هذا لا يفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق إذ ليس عنده ذات واجبة متميزة بوجودها عن الذوات الممكنة وإن كان قد يتناقض في ذلك قولهم فإنهم كلهم يتناقضون وكل من خالف الرسول فلا بد أنه يتناقض قال تعالى إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من إفك وقال ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
الأصل الثاني
أن الوجود الذي لهذه الذوات الثابتة هو عين وجود الحق الواجب ولهذا قال في أول الفصوص في الشيثية
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 396 ]
ومن هؤلاء يعني الذين لا يسألون الله من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه من حال ثبوت عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه من حال ثبوته فيعلم علم الله به من أين حصل وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر وهم على قسمين منهم من يعلم ذلك مجملا ومنهم من يعلم ذلك مفصلا والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه مما أعطاه عينه من العلم به وإما بأن يكشف له عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناها وهو وأعلى فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد هذا لفظه فهو مع كونه جعل عينه ثابتة قبل الوجود زعم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به فجعل الحق تعالى عاجزا لا يقدر إلا على ما كانت عليه عينه وجعله لا يعلم بمخلوقاته من جهة نفسه بل يراها في حال ثبوتها التي لا تفتقر فيه إليه فيعلم أحوالها حينئذ وزعم أن العبد قد يساويه في هذا العلم ولهذا صرح بحدوث علم الله ومساواة العبد له في ذلك فقال لأن الأخذ من معدن واحد إلا أنه من جهة العبد عناية من الله تعالى سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 397 ]
إلى أن قال فبهذا القدر نقول إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم ومن هنا يقول الله تعالى حتى نعلم وهي كلمة محققة المعنى ما هي كما يتوهمه من ليس له في هذا المشرب شرب
فبين مساواة العبد له في العلم وإن علم الله حادث كما أن علم العبد حادث وهذا أصل مذهبه أن كل واحد من وجود الحق وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه كما ذكره في الخليلية وغيرها ولهذا يقول
... فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده ...
ويقول إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب مع أنه يقول إنهما شيء واحد إذ لا
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 398 ]
فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت فهو يقول في الكون كله نظير ما قالته الملكانية من النصارى في المسيح لكنه يزيد عليهم بأن يسوي بين الحق والخلق وأن الحق مفتقر إلى الخلق وأن الأمر عنده لم يزل كذلك مع زيادته عليهم فإنه قال في جميع المخلوقات أعظم مما قالوه في المسيح ثم أخذ يتكلم في منح الحق ذاته وبين أنه إذا منح العبد وجوده فإنما يكون بحسب ما عليه ذواتهم ولا يرون إلا صورة ذواتهم في وجوده ولا يرون الحق أبدا ولا يمكن أن يروه لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ ليس له وجود سوى وجود ذوات المخلوقات وما سوى وجود المخلوقات فعدم
قال فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجلي إلهي والتجلي من الذات لا يكون إلا بصورة استعداد المتجلي له وغير ذلك لا يكون فإذا المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق ولا يرى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 399 ]
في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها فأبرز الله تعالى ذلك مثالا نصبه لتجليه للذوات ليعلم المتجلي له أنه ما رآه وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والمتجلى من هذا وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة إلى أن قال وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن تترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها وليست سوى عينه فاختلط الأمر وأنبهم فمنا من جهل في علمه وقال والعجز عن درك الإدراك إدراك ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول بل أعطاهم العلم السكوت ما أعطاه العجز وهذا هو أعلى عالم بالله هذا لفظه
ثم أنه لم يكتف بهذا الذي ذكره مما حقيقته جحود الخالق وأنه ليس ثم موجود سوى المخلوقات وهو حقيقة قول فرعون فجعل العالم بذلك أعلى عالم بالله حتى جعل الرسل جميعهم والأنبياء يستفيدون هذا العلم من مشكاة الذي جعله خاتم الأولياء وجعله أفضل من خاتم الرسل من جهة الحقيقة والعلم به وأنه يأخذ عن الأصل من حيث يأخذ الملك الذي يوحي إلى خاتم الرسل وأن خاتم الرسل إنما هو سيد في الشفاعة فسيادته في هذا المقام الخاص لا على العموم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 400 ]
فقال وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء وأن الرسالة والنبوة أعني نبوة الشرائع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه في وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم وفي تأبير النخل مما يلزم الكامل أن يكون له التقدم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 401 ]
في كل شيء وفي كل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله هنالك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها ولما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي تلك اللبنة غير أنه لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة فكان يرى نفسه موضع تلك اللبنة وأما خاتم الأولياء فلا بدله من هذه الرؤية فيرى ما مثل به رسول الله ويرى في الحائط موضع لبنتين من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط بهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة ولا بد أن يرى نفسه منطبعا
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 402 ]
في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تلك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهر وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل بني من أن لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث وكذلك خاتم الأنبياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الإتصاف بها من كون الله تعالى تسمى بالولي الحميد فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم الولاية نسبة الأنبياء والرسل معه فإنه الولي الرسول النبي وخاتم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 403 ]
الأولياء الولي العارف الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة فعين حالا خاصا ما عمم وفي هذا الحال الخاص مقدم على الأسماء الإلهية فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام إلى أن قال وبهذا العلم سمي شيث لأنه معناه هبة الله فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه وما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه فمنه خرج وإليه عاد فما أباه غريب لمن عقل عن الله وكل عطاء في الكون على هذا المجرى فما في أحد من الله شيء وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوعت عليه الصور وما كل أحد يعرف هذا وإن الأمر على ذلك إلا آحاد من أهل الله فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه وذلك هو عين صفات خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالى فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتحنه ما لم يكن قبل ذلك في يده فتلك الصورة عينه لا غيره فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 404 ]
وقال أيضا في الإدريسية من أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو فهو العلي لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجوات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو فهو العلي لا علو إضافة لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات والعين واحدة من المجموع في المجموع فوجود الكثير من الأسماء وهي النسب وهي أمور عدمية وليس إلى العين التي هي الذات فهو العلي لنفسه لا بالإضافة فما في العالم من هذه الحقيقة علو إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة لذلك يقول فيه هؤلاء هو أنت لا أنت قال أبو سعيد الخراز وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر في حال
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 405 ]
بطونه وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات
إلى أن قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق بالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة والد لا بل بحكم ولد والوالد من هو عين الوالد وخلق منها زوجها فما نكح سوى نفسه فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد فمن الطبيعة ومن الظاهر فيها وما رأيناها نقصت بما ظهر فيها ولا زادت بعد ما ظهر وما الذي ظهر غيرها وما هي عين
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 406 ]
ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم فهذا بارد يابس وهذا حار يابس فجمع بين اليبسين وأبان بغير ذلك والجامع الطبيعة لا بل العين الطبيعية بل معالم الطبيعة صور في مرآة واحدة لا بل صورة واحدة في مراء مختلفة فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر ومن عرف ما قلناه لم يحر وإن كان في مزيد علم وليس الأمر إلا حكم المحل والمحل عين العين الثابتة فيها يتنوع الحق في المحل بتنوع الأحكام عليه فيقبل كل حكم وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه ما ثم إلا هذا ثم أنشد
... فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فلاذكروا ...
... من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بصرو ...
... جمع وفرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر ...
فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي فيه تستغرق جميع
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 407 ]
الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نصيب منها وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة
فهذا وغيره من كلامه يبين أن الوجود عنده واحد وليس للخالق وجود مباين لوجود المخلوقات بل وجودها عينه ثم يذكر الظاهر الخيالي والمراتب وهي عنده الذوات الثابتة في العدم المساوية للوجود
وأما أسماء الله تعالى فهي عنده النسبة التي بين الوجود وبين هذه المراتب وهي في الحقيقة أمور عدمية وكل من الوجود والثبوت لا ينفك عن الآخر ولا يستغني عنه وهو شبيه بقول من يقول الوجود غير الماهية وهو ملازم لها والمادة غير الصورة وهي ملازمة لها
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 408 ]
لكن صاحب الفصوص يجعل وجود هذا الوجود الحق الذي هو وجود كل شيء فهو الموصوف عنده بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل كما هو الموصوف عنده بصفات المدح والكمال فهو العالم والجاهل والبصير والأعمى والمؤمن والكافر والناكح والمنكوح والصحيح والمريض والداعي والمجيب والمتكلم والمستمع هذا كله يذكره في مواضع من كلامه وهذا عنده غاية الكمال وفي هذا المعنى ينشدون
... وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ...
وهو عنده هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم وقد يقول لا هو العالم ولا غيره وقد يقول هو العالم أيضا وهو غيره وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها من المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين إذ ليس مذهبه في الغيرين مذهب الصفاتية
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 409 ]
فصل
وأما صاحبه القونوي فقد كان التلمساني صاحب القونوي وكان هو أحذق متأخريهم يقول إنه كان أتم من ش
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق