الثلاثاء، 26 يناير 2016

ابن القيم | الطب النبوي | زاد المعاد ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية فصل في هديه في علاج الحمى

ابن القيم | الطب النبوي | زاد المعاد
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : [ إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ]
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورأوه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول : كعامة خطابه والثاني : كقوله : [ لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ] فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها وكذلك قوله : [ ما بين المشرق والمغرب قبلة ]
وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف : صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى العفن سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة
وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الإمتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء
وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك قال : ونحن نأمر بذلك لا توقف
وقال الرازي في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه
وقوله : [ الحمى من فيح جهنم ] هو شدة لهبها وانتشارها ونظيره : قوله : [ شدة الحر من فيح جهنم ] وفيه وجهان
أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح و السرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها
والثاني : أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها
وقوله : فأبردوها روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها رباعي : من أبرد الشئ : إذا صيره باردا مثل أسخنه : إذا صيره سخنا
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشئ يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال :
( إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد )
( هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار علي الأحشاء تتقد )
وقوله : بالماء فيه قولان أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح والثاني : أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال : كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال : أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال : بماء زمزم ] وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء
ثم اختلف من قال : إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله ؟ على قولين والصحيح أنه استعمال وأظن أن الذي حمل من قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه : [ إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر ]
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه : [ الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد ]
وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه : [ الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل
وفي السنن : من حديث أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد ]
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ونفي أخباثه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج
فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها :
( زارت مكفرة الذنوب وودعت ... تبا لها من زائر ومودع )
( قالت وقد عزمت على ترحالها ... ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي )
فقلت : تبا له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ولو قال :
( زارت مكفرة الذنوب لصبها ... أهلا بها من زائر ومودع )
( قالت وقد عزمت على ترحالها ... ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي )
لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا وقد روي في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان أحدهما : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : [ من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما ] : إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم
قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه : [ إذا أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فان برئ والإ ففى خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله ]
قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فتجتمع فيه قوة القوى وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعني التي لا ورم معها ولا شئ من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع


 زاد المعاد    [ جزء 4 - صفحة 30 ]  


فصل
في هديه في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين : من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال











المصدر :
كتاب زاد المعاد لابن القيم
عدد الاجزاء ٥ مجلدات

ابن القيم | الطب النبوي | زاد المعاد فصل وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع أحدها : بالأدوية الطبيعية والثاني : بالأدوية الإلهية والثالث : بالمركب من الأمرين

ابن القيم | الطب النبوي | زاد المعاد
فصل
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع
أحدها : بالأدوية الطبيعية
والثاني : بالأدوية الإلهية
والثالث : بالمركب من الأمرين
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الأدوية الإلهية ثم المركبة
وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم
وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الإستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق


 زاد المعاد    [ جزء 4 - صفحة 23 ]  


ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسل











المصدر :
كتاب زاد المعاد لابن القيم
عدد الاجزاء ٥ مجلدات

الاثنين، 25 يناير 2016

كتاب صفة الصفوة : قال ابن الجوزي : 12- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:

كتاب صفة الصفوة :
قال ابن الجوزي :
12- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
أمه هاله بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة يكنى أبا عمارة.
وكان له من الولد: يعلى وعامر وبنت وهي التي اختصم بها زيد وجعفر وعلي واسمها أمامة.
انفرد الواقدي فقال: عمارة.
قال محمد بن كعب القرظي قال أبو جهل في رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك حمزة فدخل المسجد مغضبا فضرب رأس أبي جهل بالقوس ضربة أوضحته وأسلم حمزة فعز به رسول الله. صلى الله عليه وسلم والمسلمون وذلك في السنة السادسة من النبوة بعد دخول رسول الله دار الأرقم.
قال يزيد بن رومان وأول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لحمزة.
وعن علي عليه السلام قال لما كان يوم بدر ودنا الناس منا إذا رجل منهم على جمل له احمر يسير في القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي ناد لي حمزة وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر وماذا يقول لهم فجاء حمزة فقال هو عتبة بن ربيعة وهو ينهي عن القتال قال فبرز عتبة وشيبة والوليد فقالوا من يبارز فخرج فتية من الأنصار فقال عتبة لا نزيد هؤلاء ولكن يبارزنا من بين عمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة بن الحارث رواه الإمام أحمد1.
ذكر مقتل حمزة رضي الله عنه:
عن جعفر بن عمرو الضمري قال خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام
__________
12- هو: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب الإمام البطل الدرغام أسد الله أبو عمارة وأبو يعلى القرشي الهاشمي المكي ثم المدني البدري الشهيد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.
1 صحيح: أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك حديث 4882. وابن سعد في الطبقات 3/12.
(1/140)

فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة قلت نعم وكان وحشي يسكن حمص فجئنا حتى وقفنا عليه فسلمنا فرد السلام وعبيد الله معتجر بعمامته ما يرى وحشين إلا عينيه ورجليه فقال عبيد الله يا وحشي اتعرفني قال فنظر إليه ثم قال لا والله إلا اني اعلم ان عدي بن الخيار تزوج امرأة فولدت له غلاما فاسترضعه فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فكأني نظرت إلى قدميه.
فكشف عبيد الله وجهه ثم قال إلا تخبرنا بقتل حمزة فقال نعم أن حمزة قتل طعيمة بن عدي ببدر فقال لي موالي جبير بن مطعم أن قتلت حمزة بعمي فأنت حر فلما خرج الناس عام عينين قال وعينين جبل أحد بينه وبينه واد خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال هل من مبارز فخرج إليه حمزة فقال يا سباع يا ابن أم إنمار يا ابن مقطعة البظور أتحارب الله ورسوله ثم شد عليه فكان كامس الذاهب وكنت لحمزة تحت صخرة حتى مر علي فلما أن دنا مني رميته بحربتني فاضعها في ثنته حتى دخلت بين وركيه وكان ذلك آخر العهد به فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها السلام ثم خرجت إلى الطائف فارسلوا إلى رسول الله. صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا أنه لا يهيج الرسل فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله. صلى الله عليه وسلم فلما راني قال أنت وحشي قلت نعم قال أنت قتلت حمزة قلت قد كان الأمر ما بلغك يا رسول الله قال أما تستطيع أن تغيب وجهك عني قال فرجعت فلما توفي رسول الله. صلى الله عليه وسلم خرج مسيلمة الكذاب قلت لأخرجن إلى مسيلمة لعلي اقتله فاكافيء به حمزة فخرجت مع الناس فكان من امرهم ما كان. قال وإذا رجل قائم من ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر رأسه قال فارميه بحربتي فاضعها بين ثدييه حتى حرجت من بين كتفيه قال ودب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبد الله بن الفضل فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول فقالت جارية على ظهر بيت وا أمير المؤمنين قلته العبد الأسود انفرد بإخراجه البخاري1.
وعن الزبير أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسع






الكتاب: صفة الصفوة
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
المحقق: أحمد بن علي
الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر
الطبعة: 1421هـ/2000م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

كتاب سير اعلام النبلاء قال الامام الذهبي : وافد بني سعد: قال ابن إسحاق

كتاب سير اعلام النبلاء
قال الامام الذهبي :
وافد بني سعد:
قال ابن إسحاق، عن محمد بن الوليد، عن كريب، عن ابن عباس: بعثت بنو سعد بن بكر، ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف فقال: أيكن ابن عبد المطلب؟ فقال: أنا. فقال: أنت محمد؟ قال: "نعم". قال: إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك. أنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد؟ قال: "اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: "نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام ينشده عنده كل فريضة. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص.
ثم انصرف إلى بعيره راجعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة". فقدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: باست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجنون. قال: ويلكم، إنهما والله لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام.
وقال إسحاق بن أبي إسرائيل المروزي: حدثني حمزة بن الحارث بن عمير، قال: حدثنا أبي، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك برب من قبلك ورب من بعدك، آلله أرسلك؟ وذكر الحديث، وفيه:
(2/185)

فإني قد آمنت وصدقت، وأنا ضمام بن ثعلبة، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"فقه الرجل". قال: فكان عمر يقول: ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة. الحارث بن عمير ضعيف، وقصة ضمام في الصحيحين من حديث أنس.
قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو أخو بني عبد القيس -قال عبد الملك بن هشام: وكان نصرانيا- فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. فقال: يا محمد، تضمن لي ديني؟ قال: "نعم، قد هداك الله إلى ما هو خير منه". قال: فأسلم، وأسلم أصحابه.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، فكان منزلتهم في دار بنت الحارث الأنصارية. فحدثني بعض علمائنا أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه معه عسيب نخل في رأسه خوصات. فلما كلم النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قال: "لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه".
قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا؛ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له مكانه فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لهم، وقال: "أما إنه ليس بأشركم مكانا"؛ يعني حفظه ضيعة أصحابه. ثم انصرفوا وجاؤوه بالذي أعطاه. فلما قدموا اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ، وقال: إني أشركت في الأمر مع محمد، ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بأشركم مكانا؟ وما ذاك إلا لما يعلم أني قد أشركت معه. ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق1 وحشى. ووضع عنهم الصلاة وأحل لهم الزنى والخمر، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي. فأصفقت2 معه بنو حنيفة على ذلك.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، قال: حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك،
__________
1 الصفاق: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر.
2 أصفقت معه: اجتمعت معه.
(2/186)

ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني أراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني" ثم انصرف.
قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما رأيت"، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي".
قال: فهذا أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة. أخرجاه1.
وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ أتيت بخزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب. فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما، فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما؛ صاحب صنعاء وصاحب اليمامة". متفق عليه2.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سمع أبا رجاء؛ هو العطاردي؛ يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به، لحقنا بمسيلمة الكذاب؛ لحقنا بالنار؛ وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم حلبنا عليها اللبن، ثم نطوف به.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرأون قراءة ما أنزلها الله: الطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خيزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، فأرسل إليهم عبد الله فأتى بهم، وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة. قال: فأمر به عبد الله فقتل. ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكنا نحدرهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.
وقال المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "تشهدان أني رسول الله"؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال: "آمنت بالله ورسله، ولو كانت قاتلا رسولا لقتلتكما".
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3621"، ومسلم "2274" من طريق أبي اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4375"، ومسلم "2274" "22" من طريق معمر، عن همام بن منبه، به.
(2/187)

قال عبد الله: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبد الله: أما ابن أثال فقد كفانا الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي حتى أمكن الله منه. رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، عن المسعودي. وله شاهد.
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني سعد بن طارق، عن سلمة بن نعيم، بن مسعود، عن أبيه، سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: "وأنتما تقولان بمثل ما يقول"؟ قالا: نعم. فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".
قال ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
ثم قد وفد طيئ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم زيد الخيل سيدهم، فأسلموا، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين، وخرج راجعا إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ينج زيد من حمى المدينة". فإنه يقال قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، فلم نثبته. فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: قردة، أصابته الحمى فمات بها. قال: فعمدت امرأته إلى ما معه من كتب فحرقتها.
وقال شعبة: حدثنا سمك بن حرب، قال سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب، فأخذوا عمتي وناسا. فلما أتوا بهم رسول الله، قالت: يا رسول الله، غاب الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، فمن علي من الله عليك. قال: "من وافدك"؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: "الذي فر من الله ورسوله"؟ قالت: فمن علي، ورجل إلى جنبه تراه عليا، فقال: "سليه حملانا"، فأمر لها به.
قال: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها. إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال عدي: فأتيته، فإذا عند امرأة وصبيان؛ أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(2/188)

فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر، فأسلمت. فرأيت وجهه قد استبشر، وقال: "إن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى". وذكر باقي الحديث.
وقال حماد زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة، قال رجل:
كنت أسأل عن حديث عدي وهو إلى جنبي لا أسأله، فأتيته، فقال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكرهته أشد ما كرهت شيئا قط. فخرجت حتى أقصى أرض العرب مما يلي الروم. ثم كرهت مكاني فقلت: لو أتيته وسمعت منه. فأتيت إلى المدينة، فاستشرفني الناس؛ وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم. فقال: "يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم". فقلت: إني على دين: قال: "أنا أعلم بدينك منك، ألست ركوسيا"؟ 1 قلت: بلى. قال: "ألست ترأس قومك"؟ قلت: بلى. قال: "ألست تأخذ المرباع" قلت: بلى. قال: "فإن ذلك لا يحل في دينك". قال: فوجدت بها علي غضاضة. ثم قال: "إنه لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى بمن عندنا خصاصة، وترى الناس علينا إلبا واحدا. هل رأيت الحيرة"؟ قلت: لم أرها، وقد علمت مكانها. قال: "فإن الظعينة سترحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم، وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل ماله منه صدقة". قال: فلقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن. ووالله لتكونن الثالثة، إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى نحوه هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة.
وقال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مسيك المرادي، مفارقا لملوك كندة، فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه على الصدقة خالد بن سعيد بن العاص، فكان معه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة، ثمانون راكبا فيهم الأشعث بن قيس. فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تسلموا"؟ قالوا: بلى. قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه وألقوه.
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم، في وفد من الأزد.
فأمره على من أسلم من قومه، ليجاهد من يليه.
__________
1 الركوسية: هو دين بين النصاري والصابئين.
(2/189)

إسلام ملوك اليمن:
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير؛ م






المصدر :   

 
الكتاب: سير أعلام النبلاء
المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)
الناشر: دار الحديث- القاهرة
الطبعة: 1427هـ-2006م
عدد الأجزاء: 18
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

من كتب المكتبة الشاملة

الأحد، 24 يناير 2016

ابن القيم | في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب

ابن القيم | الطب النبوي | زاد المعاد
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ]
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية وهي الأمراض الأكثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك أورثته أمراضا متنوعة منها بطيء الزوال وسريعه فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة وكان معتدلا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة والثانية : مرتبة الكفاية والثالثة : مرتبة الفضلة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن
هذا إذا كان دائما أو أكثريا وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن وإن أخصبه وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته
ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء وقالوا : إن في البدن جزءا ناريا بالفعل وهو أحد أركانه واسطقساته
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية أو يقال : إنه تولد فيها وتكون والأول مستبعد لوجهين أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالإنطفاء
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك قد كان قبل صيرورته إما أرضا وإما ماء وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة وهذا الذي قد صار نارا أولا كان مختلطا بأحد هذه الأجسام ومتصلا بها والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا لأنه في نفسه ليس بنار والأجسام المختلطة باردة فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت النار وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضا
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار
البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية لكانت محالا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء وفي بعضها أنه خلقه من تراب وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس وثبت في صحيح مسلم : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ] وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ولا أن في مادته شيئا من النار
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان وهي دليل على الأجزاء النارية وهذا لا يدل فإن أسباب الحرارة أعم من النار فإنها تكون عن النار تارة وعن الحركة أخرى وعن انعكاس الأشعة وعن سخونة الهواء وعن مجاورة النار وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا وتكون عن أسباب أخر فلا يلزم من الحرارة النار
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا فإن حصل فهو الجزء الناري وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت لأن فيها جوهرا ناريا
وأيضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله والشئ لا ينفعل عن مثله وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به وإذا لم يحس به لم يتألم عنه وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية ونحن لا نقول بذلك بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الإمتزاج
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك
وأما حديث إحساس البدن بالبرد فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار فإنه وإن كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات وبالله التوفيق


 زاد المعاد    [ جزء 4 - صفحة 22 ]  


فصل
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع
أحدها : بالأدوية الطبيعية
والثاني : بالأدوية الإلهية
والثالث : بالمرك











المصدر :
كتاب زاد المعاد لابن القيم
عدد الاجزاء ٥ مجلدات

الخميس، 21 يناير 2016

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة قال ابن تيمية الوجه الخامس عشر قوله فأقول إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة علية يعبر عنها بالملائكة فيها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها ...

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه الخامس عشر
قوله فأقول إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة علية يعبر عنها بالملائكة فيها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أربابا ويكون الله رب الأرباب لذلك ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 376 ]  


فبالحري أن يكون مثالها في عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب إلى آخر الكلام
فيقال لاريب أن تسمية هذه أربابا هو كلام اليونانيين وأمثالهم من المشركين فأنهم يصرحون في كتبهم بتسمية هذه المجردات التي يقولون أنها الملائكة أربابا وآلهة ويقولون هي الأرباب الصغرى والآلهة الصغرى وهؤلاء المتفلسفة الصابئة يعبدون الملائكة والكواكب
وأما الرسل وأتباعهم الموحدون فقد قال الله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبرفسيحشرهم إليه جميعا
وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 377 ]  


وقال تعالى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما منهم له من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وأمثال ذلك كثير
ثم هذا معلوم بالاضطرار أن الملائكة ليست أربابا ولا تسمى في الشريعة أربابا
فقول القائل ولأجلها قد تسمى أربابا
يقال هذه التسمية هي من التسمية المذكورة في قوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان
وكما قال يوسف الصديق يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان
بل لا رب إلا الله ربنا ورب آبائنا الأولين
وإذا قيل في البشر رب كذا فإنما يضاف إلى غير المكلف كما


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 378 ]  


يقال رب الدار ورب الثوب وكما قال لأبي الأحوص الجشمي أرب إبل أنت أم رب غنم
وكما قال إذا اختلف البيعان فالقول ما قال رب السلعة وهذا مما يبين ضلال بعضم أن يتأول كلام شيوخ الإتحادية فإنه لما قال في الفصوص فصح قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق زعم بعض أتباعه بقوله إنما صح قوله كما يقال رب الثوب ورب الدار ونحو ذلك


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 379 ]  


وأعجب من ذلك قول بعض أكابرهم أنه أراد رب كم
ومعلوم أن هذه الأقوال لولا أنه يقولها بعض المسرفين من الشيوخ ويضلون بها أكابر من الناس لكان المؤمن في غنية عنها وعن حكايتها وردها لظهور فسادها لكل أحد
فيقال لهذا إن صاحب الفصوص عنده قد صرح بمذهبه تصريحا أزال الشبهة في غير موضع فلا حاجة إلى هذا التكليف وقد قال
لما كان فرعون في منصب التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى أي إن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم قال ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له اقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق فقد صرح أنه عين الحق وأن قوله أنا ربكم الأعلى صح مع كون الجميع أربابا بنسبة ما فالعبد عنده هو الرب


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 380 ]  


ثم يقال له فرعون قد قال ما علمت لكم من إله غيري وقال لموسى وما رب العالمين فأنكر الصانع وذكر الله ذلك عنه فلا حاجة إلى تأويل كلامه
ويقال له الله سبحانه ذكر هذا الكلام عنه منكرا له غاية الإنكار مبينا لعقوبته فقال وهل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى
فقد صح من الله سبحانه أنه أخذ نكالا على ذلك وجعله في ذلك عبرة وجعل المناداة بهذه الكلمة عينها عين الكفر حيث قال فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى
وقد قالوا إن قوله الآخرة والأولى أي كلمته الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري
وكلمته الأخرى وهي قوله فقال أنا ربكم الأعلى فإن هذه أعظم من تلك ثم يقال أوجب ذلك إنه لا يجوز لأحد أن يقول للإنس والجن أنا ربكم غير الله تعالى ولا يجوز لأحد أن يجعل غير الله ربا كما لا يجوز أن يوصف بالربوبية مطلقا إلا الله وحده لا شريك له
الوجه السادس عشر
ما ذكر في تفسير قصة موسى والوادي المقدس وتفسير ذلك


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 381 ]  


فنقول هؤ







بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة قال ابن تيمية الوجه الرابع عشر إن ما ذكره في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من أنه أراد بالكوكب القمر والشمس ما يذكره المتفلسفة من العقول والنفوس

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه الرابع عشر
إن ما ذكره في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من أنه أراد بالكوكب القمر والشمس ما يذكره المتفلسفة من العقول والنفوس كما في المشكاة


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 355 ]  


وأن الشمس هي العقل لكونه هو المفيض على النفس كالشمس مع القمر وهم مضطربون في هذا التأويل فإن العقول عندهم عشرة والنفوس تسعة والشمس والقمر إثنان والكواكب كثيرة فلاينطبق هذا على هذا
ولهذا كلامهم في المطابقة مضطرب كما تقدم
وملخصه أنه جعل الكواكب من النفوس المتعددة
وجعل القمر كنفس الفلك التاسع وجعل الشمس هي العقل
لكن المقصود أن هذا مما يعلم بالإضطرار أنه ليس هو المراد بالآية ولم يقله أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بل قد اتفق كل من تكلم في تفسير القرآن من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين على أن المراد بالكوكب والقمر والشمس ما هو معروف من مسميات هذه الأسماء وهذه الأعيان المشهودة المستكثرة ولا كان أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يثبت العقول والنفوس كما يثبتها هؤلاء المتفلسفة ولا الملائكة المذكورون في الكتاب والسنة على الصفة التي ينص هؤلاء عليها وما يذكرونه من العقول والنفوس فضلا عن أن تسميها عقولا ونفوسا بل بينهما من الفروق والمخالفات ما لا يكاد يحصيه إلا الله
ولفظ الكوكب والشمس والقمر معرفا بلام التعريف والبزوغ والأفول لا يحتمل ما يذكرونه من العقول والنفوس في لغة العرب بوجه من الوجوه
والذين نقلوا القرآن لفظه ومعناه عن الرسول قد علم بالتواتر


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 356 ]  


والإضطرار عنهم أن المراد بالشمس والقمر الشمس والقمر كما أن ذلك هو المراد بهذين الاسمين في عامة القرآن كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون
وقوله والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وقوله وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم
وقوله إذا الشمس كورت
وقوله في وصف القمر والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل الآية ولكن هذا من جنس تأويل القرامطة كالسهروردي الحلبي وأمثاله إن المراد بالشمس هنا عقل الإنسان والنجوم حواسه وبالجبال أعضاؤه ونحو ذلك مما يتأول فيه نصوص القيامة على موت الإنسان وهو كتأويل بعض كبار الإتحادية الذين يفسرون طلوع الشمس من مغربها بطلوع كلامهم وبطلوع النفس من البدن ولنزول عيسى بن مريم من السماء بنزول روحانيته أو جزئها على هذا الشخص وكان اسم أمه مريم وأمثال ذلك


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 357 ]  


ومعلوم أن حمل كلام الله ورسوله على معنى من المعاني لا بد فيه من شيئين
أحدهما أن يكون ذلك المعنى حقا في دين الإسلام يصلح إخبار الرسول عنه
الثاني أن يكون قد دل عليه بالنص لفظ يدل عليه دلالة لفظ على معناه وكل من المقدمتين هنا معلوم انتفاؤه قطعا بالاضطرار فإن من فهم ما يقوله هؤلاء من العقول والنفوس وإن سموها ملائكة وفهم ما جاءت به الرسل عن الأخبار بملائكة الله واعتبر أحد القولين بالآخر علم بالإضطرار أن قول هؤلاء من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل وأن ذلك من أعظم الكفر في دين الرسل وأن حقيقته حقيقة قول من يقول ولد الله وإنهم لكاذبون ومن خرق له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وحقيقة قوله الذي أخبر عنه رسوله في الحديث الصحيح حيث قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 358 ]  


وهذا الحديث منطبق على هؤلاء المتفلسفة فإن قولهم في المبدأ بالتوليد عنه وفي المعاد بعود النفس إلى عالمها من دون إعادة الخلق يتضمن من شتم الله وتكذيبه ما أخبر به رسوله وهذا باب واسع
لكن المقدمة الثانية أغرب وهو كون لفظ الكواكب والقمر والشمس في القرآن أريد بالكواكب النفوس الكلية وبالقمر نفس الكل وبالشمس العقل فإن هذا مما يعلم بالإضطرار أن لفظ القرآن لا يحتمله لا حقيقة ولا مجازا كما لا يحتمل أن يراد بلفظ الشمس والقمر والكواكب آدم وحواء وأولادهما ولا هم أبو إبراهيم وأخوته كما كان مثل ذلك التأويل في رؤيا يوسف كما لا يحتمل أنه أراد بالشمس والقمر والكواكب سلطان وقته ووزيره وأعوانه وشبه ذلك مما قد يعبر به العابر في من رأى الشمس والقمر والكواكب ثم الرائي كيوسف الصديق إنما مثله له في منامه سجود هذا الشمس والقمر والكواكب لكن لم تكن هي الساجدة في الخارج بل قيل له ذلك في نفسه وهؤلاء يزعمون أن إبراهيم لم يرد هذا الشمس والقمر والكواكب لا في نفسه ولا في الخارج فكيف إذا حمل على ما هو أبعد وهذا الجواب لا يحتمل البسط
الوجه الثالث
أن يقال قصة إبراهيم الخليل التي قصها الله تعالى في كتابه مع أنها من أعظم سبل الإعتبار لتحقيق التوحيد فقد ضل بها فريقان من الناس


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 359 ]  


وأضل ضلالتهم أنهم اعتقدوا أن إبراهيم لما قال هذا ربي في الثلاثة مخبرا أو مستفهما أو مقدرا أراد أن هذا هو الذي خلق السماوات والأرض وأنه رب العالمين ثم أنهم لما ظنوا أنه أراد هذا سلك هؤلاء سبيلا وهؤلاء سبيلا ولو تدبروا القصة لعلموا أنها تدل على نقيض قولهم
فالفريق الأول طوائف من أئمة أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من غيرهم حتى مثل ابن عقيل وأبي حامد وغيرهم قالوا إن هذا الذي سلكه إبراهيم هو الدليل الذي سلكه هؤلاء في حدوث الأجسام حيث استدلوا على ذلك بما قام بها من الأعراض الحادثة كالحركة وأثبتوا حدوث الأعراض أو بعضها ولزومها للجسم أو بعضها ثم قالوا وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ثم منهم من أخذ ذلك مسلما ومنهم من تفطن للسؤال الوارد هنا وهو الفرق بين ما لا ينفك عن عين المحدث أو نوعه فإن المحدث المعين إذا قدر أنه لازم لغيره فلا ريب أنه حادث هذا معلوم بالضرورة والإتفاق واما ما يستلزم نوع المحدث فإنما يعلم حدوثه إذا قدر امتناع حوادث لا أول لها فخاضوا في تقرير هذه المقدمة بما ذكروه
والمقصود هنا أن من هؤلاء من جعل هذا هو دليل إبراهيم الخليل على إثبات الصانع وهو أنه استدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك ولو تدبروا لعلموا أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم من الأفول أما أولا فإن إبراهيم إنما قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاختفاء بالعلم القائم المتواتر الضروري في النفس واللغة ولم ينقل أحد أن الأفول مجرد الحركة
وأما ثانيا فإنه قد قال فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 360 ]  


قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون
ومعلوم أنه من حين البزوغ ظهرت فيه الحركة فلو كانت هي الدليل على الحدوث لم يستمر على ما كان عليه إلى حين المغيب بل هذا يدل على أن الحركة لم يستدل بها أو لم تكن تدل عنده على نفس مطلوبة
وأما ثالثا فإنا قال لا أحب الآفلين فنفى محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه
وأما رابعا فمن المعلوم أن أحدا من العقلاء لم يكن يظن أن كوكبا من الكواكب دون غيره من الكواكب هو رب كل شيء حتى يكون رب سائر الكواكب والأفلاك والشمس والقمر وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع
والفريق الثاني من فسر ذلك من متفلسفة الصوفية أنه هو النفوس والعقول كما ذكره أبو حامد
ومعلوم أن هذا أفسد من الأول بكثير مع أنه في المشكاة رجح حال من يعتقد إلهية هذه فيما رأى على طوائف المسلمين الصفاتية المقرين برب العالمين فإنه لما ذكر الحجة ثم أخذ في تفسير الحديث المكذوب أن لله


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 361 ]  


سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره
وفي بعضها سبعمائة وفي بعضها سبعين ألف حجاب فقسم الحجب والمحجوبين ثلاثة أقسام
الأول المحجوبون بمحض الظلمة وهم المعطلة للصانع
الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة وهي ثلاثة انواع
حسية وخيالية وعقلية
فالحسية كطوائف من المشركين والمجوس
والخيالية كطوائف من المسلمين من المجسمة والكرامية والعقلية قال هم المحجوبون بالأنوار الإلهية يعرفون مقامات عقلية فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حسيا منزها عن الجهات فكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم وربما صرح


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 362 ]  


أحدهم فقال كلامه صوت ككلامنا وربما ترقى بعضهم فقال لا بل هو كحديث أنفسنا ولا صوت ولا حرف ولذلك إذا طولبوا بحقيثة السمع والبصر رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصل معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى وكذلك قالوا في إرادته أنها حادثة مثل إرادتنا وأنها طلب وقصد مثل قصدنا
وقال وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها فهؤلاء محجوبون بجملة الأنوار مع ظلمة المقامات العقلية فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة
القسم الثالث المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف لا يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم
فالأول طائفة عرفوا المعاني والصفات تحقيقا وأدركوا أن


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 363 ]  


إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون وما رب العالمين فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن المفهوم الظاهر من معاني هذه الصفات هو محرك السماوات ومدبرها
والصنف الثاني ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى فلكا وفيهم كثرة وأما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية فنسبة الكواكب إلى الأنوار المحسوسة ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة وقالوا الرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها إذا الكثرة منتفية عنه
والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 364 ]  


المحسوسة فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة المحرك ويكون الرب تعالى محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة ثم في فهم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب
فهؤلاء كلهم أصناف محجوبون بالأنوار المحضة وإنما الموحدون الواصلون إلى حضرة الحق صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال المبلغ كثير لا يحتمل هذا الكتاب كشفه وإن نسبة هذا المطاع نسبة الشمس إلى الأنوار المحسوسة فتوجهوا من الذي يحرك السماوات ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السماوات والأرض
وفطر الأمر بتحريكها فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم فأحرقت سبحات وجهه الأزلي الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفه من قبل ثم هؤلاء انقسموا فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 365 ]  


وتلاشى لكن بقي هو ملاحظا للجمال المقدس وملاحظا ذاته من جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية فانمحقت منه المبصرات دون البصر وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه من أنفسهم وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذواتهم ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لغيابهم عن أنفسهم ولم يبق إلا الواحد الحق وصار معنى قوله كل شيء هالك إلا وجهه لهم ذوقا وحالا وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنه كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين
ومنهم من لم يتدرج في الترقي على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا من أول مرة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه فغلب عليهم أولا ما غلب على آخر الآخرين إذ هجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 366 ]  


ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية من غير تدرج ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل والثاني طريق الحبيب صلوات الله عليهما والله أعلم بأسرارهما وأنوار غاياتهما فهذه إشارة إلى المحجوبين بالنور والظلمة ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي حصرناها فإنهم إما محجوبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق وهذا آخر الكتاب
فهذا الكلام مع ما فيه من تصويب نفاة الصفات من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم وتخطئة الصفاتية الذين هم سلف الأمة وأئمتها وأهل الحديث والتصوف والفقه وحذاق أهل الكلام من الكلابية


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 367 ]  


والأشعرية والكرامية والهشامية وغيرهم
ويتضمن أيضا تفضيل الذين يعتقدون في أحد النفوس والعقول أنه رب العالمين وغايتهم أن يجعلوا ذلك هي الملائكة
ويتضمن تفضيل من يعتقد في ملك من الملائكة أنه رب العالمين على من يقر برب العالمين من الصفاتية المسلمين واليهود والنصارى وإذا كان معلوما بالإضطرار من دين الرسل كلهم أن الفلاسفة الصابئة الذين يعبدون الملائكة مع قولهم أنهم مخلوقون هم أسوأ حالا من أهل الكتاب اليهود والنصارى مع ما وصف الله به هؤلاء من المقالات الغالية من التجسيم والتعطيل وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز عن اليهود أنهم قالوا يد الله مغلولة وأنهم قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 368 ]  


وذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب لما قال من قال من اليهود أنه استراح يوم السبت فنزه نفسه عن أن يمسه لغوب وذكر قول النصارى أن المسيح هو الله وأنه ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة
ومع هذا فالمشركون الذين يعبدون الملائكة أو غيرها أسوأ حالا من هؤلاء باتفاق المسلمين مع إقرارهم برب العالمين فكيف بتفضيل من يقول أن ملكا هو رب العالمين على طوائف المسلمين واليهود والنصارى الذين يثبتون الصفات ولو فرض أن بعضهم أخطأ في بعض ذلك هذا شبيه ما ذكره الله بقوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ومنشأ


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 369 ]  


هذا الضلال الذي وقع في قصة إبراهيم ما تقدم ذكره من ظنهم أنه قال إن الكوكب أو القمر أو الشمس رب العالمين وليس الأمر كذلك بل إبراهيم عليه السلام خاطب قومه المشركين الذين كانوا مع إقرارهم برب العالمين يعبد أحدهم ما يستحسنه ويهواه ويراه نافعا له فهذا يعبد المشتري وهذا يعبد الزهرة وهذا يعبد غيرهما كما كانت الكواكب تعبد وكان أعظم ما يعبد من ذلك الشمس والقمر لظهور تأثيرهما في العالم وكانوا ينسبون هياكل العبادات لهذه المعبودات فيقولون هيكل الشمس هيكل القمر هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الزهرة هيكل عطارد
وقد ذكر المصنفون لأخبارهم أن أحد مسجدي دمشق وحران كان هيكل المشتري والآخر هيكل الزهرة وكان إبراهيم عليه السلام قد ولد بحران كما هو معروف عند أهل الكتاب وجمهور المسلمين وكان أبوه


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 370 ]  


في ملك النمروذ وكان قد استولى على العراق وغيرها وكانوا صابئة فلاسفة يعبدون الكواكب
وقد صنف من صنف في مخاطبة الكواكب والسحر على مذهبهم مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ونحو ذلك مما يذكر فيه مذهب الكلدانيين والكشدانيين وكانوا مع بنائهم هياكل النجوم


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 371 ]  


يبنون هيكل العلة الأول وهيكل العقل وهيكل النفس ويفرقون بين هذا وهذا وبقوا بحران وواسط أكثر من ثلاثمائة سنة في مدة الإسلام وتنازع الفقهاء في قبول الجزية منهم ومنهم من جعل للشافعي وأحمد قولين فيهم
واستقراء القول فيهم على التفصيل بأن من دان منهم بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا فدخلوا في النصرانية وشرح حالهم يطول


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 372 ]  


والمقصود أن مخاطبة الخليل عليه السلام تضمنت الرد على الفلاسفة الصابئين المشركين وأمثالهم فإن أحدهم كانت عبادته تابعة لما يحبه ويهواه فإنهم إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وأحدهم يظن أن عبادة هذا الكوكب ومخاطبته تنفعه يجلب منفعة ودفع مضرة فيتخذه إلها مع إقراره بأنه مربوب ليس هو رب العالمين وهؤلاء أحد أنواع المشركين وكانوا تارة يتخذون لهذه الكواكب أجساما على ما يظنونه موافقا لطبائعها كما يلبسون لها من اللباس ويتختمون لها بالخواتيم ويتحرون لها من الأيام ما يظنونه موافقا لطبائعها وقد سمي ذلك علم الإستخدام والروحانيات وقد يتمثل لأحدهم شيطان يخاطبه فيقول هذه روحانية الكوكب أو خادمه كما كان لأصنام العرب شياطين تخاطبهم
وكذلك في بلاد الترك والهند من الشياطين التي تخاطب المشركين ما


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 373 ]  


هو معروف ولهذا قال الخليل في آخر أمره إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فتبرأ عما كانوا يشركونه بالله وذكر أنه وجه قصده وعبادته للذي فطر السماوات والأرض وهذه الحنيفية ملة إبراهيم التي بعث الله بها الرسل وهي عبادة الله وحده لا شريك له وليس في لفظه إحداث إقرار الصانع بل كان الإقرار بالصانع ثابتا عندهم لهذا قال في الآية الأخرى قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
وقا أيضا قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
فبهذا وغيره يتبين أن القوم كانوا مشركين بالله مثل ما كان مشركوا العرب قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فهم يجعلون معه آلهة أخرى يعبدونها مع اعترافهم أنه وحده رب العالمين كما ذكر الله تعالى ذلك في غير موضع في القرآن في مثل قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 374 ]  


وكانوا يتخذونهم شفعاء وشركاء كما أخبر القرآن بذلك ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين
فذكر أنه لا يحب الآفلين لأنهم كانوا على عادتهم على عادة المشركين يعبد أحدهم ما يحبه ويهواه ويتخذ إلهه هواه
وقوله لا أحب الآفلين كلام مناسب ظاهر فإن الآفل يغيب عن عابده فلا يبقى وقت أفوله من يعبده ويستعينه وينتفع به ومن عبد ما يطلب منه المنفعة ودفع المضرة فلا بد أن يكون ذلك في جميع الأوقات فإذا أفل ظهر بالحس حينئذ أنه لا يكون سببا في نفع ولا ضر فضلا عن أن يكون مستقلا
ولهذا قال إبراهيم في مناظرته لهم وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
وهذه محاجة قوم كانوا يخوفونه بآلهتهم كما هي عادة المشركين يخوفون من يكفر بطواغيتهم أي مضرة ذلك فقال الخليل وكيف أخاف ما أشركتم فعدلتموه بالله تعبدونه كما يعبد الله ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فإن الله لم ينزل كتابا من السماء ولم يرسل رسولا بعبادة شيء سواه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 375 ]  


وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال النبي ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولكن نبهنا على المقصود
الوجه الخامس عشر
قوله فأقول إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة علية يعبر عنها 







بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١