الوجه الرابع عشر
إن ما ذكره في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من أنه أراد بالكوكب القمر والشمس ما يذكره المتفلسفة من العقول والنفوس كما في المشكاة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 355 ]
وأن الشمس هي العقل لكونه هو المفيض على النفس كالشمس مع القمر وهم مضطربون في هذا التأويل فإن العقول عندهم عشرة والنفوس تسعة والشمس والقمر إثنان والكواكب كثيرة فلاينطبق هذا على هذا
ولهذا كلامهم في المطابقة مضطرب كما تقدم
وملخصه أنه جعل الكواكب من النفوس المتعددة
وجعل القمر كنفس الفلك التاسع وجعل الشمس هي العقل
لكن المقصود أن هذا مما يعلم بالإضطرار أنه ليس هو المراد بالآية ولم يقله أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بل قد اتفق كل من تكلم في تفسير القرآن من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين على أن المراد بالكوكب والقمر والشمس ما هو معروف من مسميات هذه الأسماء وهذه الأعيان المشهودة المستكثرة ولا كان أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يثبت العقول والنفوس كما يثبتها هؤلاء المتفلسفة ولا الملائكة المذكورون في الكتاب والسنة على الصفة التي ينص هؤلاء عليها وما يذكرونه من العقول والنفوس فضلا عن أن تسميها عقولا ونفوسا بل بينهما من الفروق والمخالفات ما لا يكاد يحصيه إلا الله
ولفظ الكوكب والشمس والقمر معرفا بلام التعريف والبزوغ والأفول لا يحتمل ما يذكرونه من العقول والنفوس في لغة العرب بوجه من الوجوه
والذين نقلوا القرآن لفظه ومعناه عن الرسول قد علم بالتواتر
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 356 ]
والإضطرار عنهم أن المراد بالشمس والقمر الشمس والقمر كما أن ذلك هو المراد بهذين الاسمين في عامة القرآن كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون
وقوله والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وقوله وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم
وقوله إذا الشمس كورت
وقوله في وصف القمر والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل الآية ولكن هذا من جنس تأويل القرامطة كالسهروردي الحلبي وأمثاله إن المراد بالشمس هنا عقل الإنسان والنجوم حواسه وبالجبال أعضاؤه ونحو ذلك مما يتأول فيه نصوص القيامة على موت الإنسان وهو كتأويل بعض كبار الإتحادية الذين يفسرون طلوع الشمس من مغربها بطلوع كلامهم وبطلوع النفس من البدن ولنزول عيسى بن مريم من السماء بنزول روحانيته أو جزئها على هذا الشخص وكان اسم أمه مريم وأمثال ذلك
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 357 ]
ومعلوم أن حمل كلام الله ورسوله على معنى من المعاني لا بد فيه من شيئين
أحدهما أن يكون ذلك المعنى حقا في دين الإسلام يصلح إخبار الرسول عنه
الثاني أن يكون قد دل عليه بالنص لفظ يدل عليه دلالة لفظ على معناه وكل من المقدمتين هنا معلوم انتفاؤه قطعا بالاضطرار فإن من فهم ما يقوله هؤلاء من العقول والنفوس وإن سموها ملائكة وفهم ما جاءت به الرسل عن الأخبار بملائكة الله واعتبر أحد القولين بالآخر علم بالإضطرار أن قول هؤلاء من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل وأن ذلك من أعظم الكفر في دين الرسل وأن حقيقته حقيقة قول من يقول ولد الله وإنهم لكاذبون ومن خرق له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون وحقيقة قوله الذي أخبر عنه رسوله في الحديث الصحيح حيث قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 358 ]
وهذا الحديث منطبق على هؤلاء المتفلسفة فإن قولهم في المبدأ بالتوليد عنه وفي المعاد بعود النفس إلى عالمها من دون إعادة الخلق يتضمن من شتم الله وتكذيبه ما أخبر به رسوله وهذا باب واسع
لكن المقدمة الثانية أغرب وهو كون لفظ الكواكب والقمر والشمس في القرآن أريد بالكواكب النفوس الكلية وبالقمر نفس الكل وبالشمس العقل فإن هذا مما يعلم بالإضطرار أن لفظ القرآن لا يحتمله لا حقيقة ولا مجازا كما لا يحتمل أن يراد بلفظ الشمس والقمر والكواكب آدم وحواء وأولادهما ولا هم أبو إبراهيم وأخوته كما كان مثل ذلك التأويل في رؤيا يوسف كما لا يحتمل أنه أراد بالشمس والقمر والكواكب سلطان وقته ووزيره وأعوانه وشبه ذلك مما قد يعبر به العابر في من رأى الشمس والقمر والكواكب ثم الرائي كيوسف الصديق إنما مثله له في منامه سجود هذا الشمس والقمر والكواكب لكن لم تكن هي الساجدة في الخارج بل قيل له ذلك في نفسه وهؤلاء يزعمون أن إبراهيم لم يرد هذا الشمس والقمر والكواكب لا في نفسه ولا في الخارج فكيف إذا حمل على ما هو أبعد وهذا الجواب لا يحتمل البسط
الوجه الثالث
أن يقال قصة إبراهيم الخليل التي قصها الله تعالى في كتابه مع أنها من أعظم سبل الإعتبار لتحقيق التوحيد فقد ضل بها فريقان من الناس
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 359 ]
وأضل ضلالتهم أنهم اعتقدوا أن إبراهيم لما قال هذا ربي في الثلاثة مخبرا أو مستفهما أو مقدرا أراد أن هذا هو الذي خلق السماوات والأرض وأنه رب العالمين ثم أنهم لما ظنوا أنه أراد هذا سلك هؤلاء سبيلا وهؤلاء سبيلا ولو تدبروا القصة لعلموا أنها تدل على نقيض قولهم
فالفريق الأول طوائف من أئمة أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من غيرهم حتى مثل ابن عقيل وأبي حامد وغيرهم قالوا إن هذا الذي سلكه إبراهيم هو الدليل الذي سلكه هؤلاء في حدوث الأجسام حيث استدلوا على ذلك بما قام بها من الأعراض الحادثة كالحركة وأثبتوا حدوث الأعراض أو بعضها ولزومها للجسم أو بعضها ثم قالوا وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ثم منهم من أخذ ذلك مسلما ومنهم من تفطن للسؤال الوارد هنا وهو الفرق بين ما لا ينفك عن عين المحدث أو نوعه فإن المحدث المعين إذا قدر أنه لازم لغيره فلا ريب أنه حادث هذا معلوم بالضرورة والإتفاق واما ما يستلزم نوع المحدث فإنما يعلم حدوثه إذا قدر امتناع حوادث لا أول لها فخاضوا في تقرير هذه المقدمة بما ذكروه
والمقصود هنا أن من هؤلاء من جعل هذا هو دليل إبراهيم الخليل على إثبات الصانع وهو أنه استدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك ولو تدبروا لعلموا أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم من الأفول أما أولا فإن إبراهيم إنما قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاختفاء بالعلم القائم المتواتر الضروري في النفس واللغة ولم ينقل أحد أن الأفول مجرد الحركة
وأما ثانيا فإنه قد قال فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 360 ]
قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون
ومعلوم أنه من حين البزوغ ظهرت فيه الحركة فلو كانت هي الدليل على الحدوث لم يستمر على ما كان عليه إلى حين المغيب بل هذا يدل على أن الحركة لم يستدل بها أو لم تكن تدل عنده على نفس مطلوبة
وأما ثالثا فإنا قال لا أحب الآفلين فنفى محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه
وأما رابعا فمن المعلوم أن أحدا من العقلاء لم يكن يظن أن كوكبا من الكواكب دون غيره من الكواكب هو رب كل شيء حتى يكون رب سائر الكواكب والأفلاك والشمس والقمر وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع
والفريق الثاني من فسر ذلك من متفلسفة الصوفية أنه هو النفوس والعقول كما ذكره أبو حامد
ومعلوم أن هذا أفسد من الأول بكثير مع أنه في المشكاة رجح حال من يعتقد إلهية هذه فيما رأى على طوائف المسلمين الصفاتية المقرين برب العالمين فإنه لما ذكر الحجة ثم أخذ في تفسير الحديث المكذوب أن لله
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 361 ]
سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره
وفي بعضها سبعمائة وفي بعضها سبعين ألف حجاب فقسم الحجب والمحجوبين ثلاثة أقسام
الأول المحجوبون بمحض الظلمة وهم المعطلة للصانع
الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة وهي ثلاثة انواع
حسية وخيالية وعقلية
فالحسية كطوائف من المشركين والمجوس
والخيالية كطوائف من المسلمين من المجسمة والكرامية والعقلية قال هم المحجوبون بالأنوار الإلهية يعرفون مقامات عقلية فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حسيا منزها عن الجهات فكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم وربما صرح
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 362 ]
أحدهم فقال كلامه صوت ككلامنا وربما ترقى بعضهم فقال لا بل هو كحديث أنفسنا ولا صوت ولا حرف ولذلك إذا طولبوا بحقيثة السمع والبصر رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصل معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى وكذلك قالوا في إرادته أنها حادثة مثل إرادتنا وأنها طلب وقصد مثل قصدنا
وقال وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها فهؤلاء محجوبون بجملة الأنوار مع ظلمة المقامات العقلية فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني المحجوبون بنور مقرون بظلمة
القسم الثالث المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف لا يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم
فالأول طائفة عرفوا المعاني والصفات تحقيقا وأدركوا أن
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 363 ]
إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون وما رب العالمين فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن المفهوم الظاهر من معاني هذه الصفات هو محرك السماوات ومدبرها
والصنف الثاني ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى فلكا وفيهم كثرة وأما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية فنسبة الكواكب إلى الأنوار المحسوسة ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة وقالوا الرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها إذا الكثرة منتفية عنه
والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 364 ]
المحسوسة فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة المحرك ويكون الرب تعالى محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة ثم في فهم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب
فهؤلاء كلهم أصناف محجوبون بالأنوار المحضة وإنما الموحدون الواصلون إلى حضرة الحق صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال المبلغ كثير لا يحتمل هذا الكتاب كشفه وإن نسبة هذا المطاع نسبة الشمس إلى الأنوار المحسوسة فتوجهوا من الذي يحرك السماوات ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السماوات والأرض
وفطر الأمر بتحريكها فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم فأحرقت سبحات وجهه الأزلي الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفه من قبل ثم هؤلاء انقسموا فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 365 ]
وتلاشى لكن بقي هو ملاحظا للجمال المقدس وملاحظا ذاته من جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية فانمحقت منه المبصرات دون البصر وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه من أنفسهم وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذواتهم ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لغيابهم عن أنفسهم ولم يبق إلا الواحد الحق وصار معنى قوله كل شيء هالك إلا وجهه لهم ذوقا وحالا وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنه كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين
ومنهم من لم يتدرج في الترقي على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا من أول مرة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه فغلب عليهم أولا ما غلب على آخر الآخرين إذ هجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 366 ]
ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية من غير تدرج ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل والثاني طريق الحبيب صلوات الله عليهما والله أعلم بأسرارهما وأنوار غاياتهما فهذه إشارة إلى المحجوبين بالنور والظلمة ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي حصرناها فإنهم إما محجوبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق وهذا آخر الكتاب
فهذا الكلام مع ما فيه من تصويب نفاة الصفات من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم وتخطئة الصفاتية الذين هم سلف الأمة وأئمتها وأهل الحديث والتصوف والفقه وحذاق أهل الكلام من الكلابية
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 367 ]
والأشعرية والكرامية والهشامية وغيرهم
ويتضمن أيضا تفضيل الذين يعتقدون في أحد النفوس والعقول أنه رب العالمين وغايتهم أن يجعلوا ذلك هي الملائكة
ويتضمن تفضيل من يعتقد في ملك من الملائكة أنه رب العالمين على من يقر برب العالمين من الصفاتية المسلمين واليهود والنصارى وإذا كان معلوما بالإضطرار من دين الرسل كلهم أن الفلاسفة الصابئة الذين يعبدون الملائكة مع قولهم أنهم مخلوقون هم أسوأ حالا من أهل الكتاب اليهود والنصارى مع ما وصف الله به هؤلاء من المقالات الغالية من التجسيم والتعطيل وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز عن اليهود أنهم قالوا يد الله مغلولة وأنهم قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 368 ]
وذكر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب لما قال من قال من اليهود أنه استراح يوم السبت فنزه نفسه عن أن يمسه لغوب وذكر قول النصارى أن المسيح هو الله وأنه ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة
ومع هذا فالمشركون الذين يعبدون الملائكة أو غيرها أسوأ حالا من هؤلاء باتفاق المسلمين مع إقرارهم برب العالمين فكيف بتفضيل من يقول أن ملكا هو رب العالمين على طوائف المسلمين واليهود والنصارى الذين يثبتون الصفات ولو فرض أن بعضهم أخطأ في بعض ذلك هذا شبيه ما ذكره الله بقوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ومنشأ
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 369 ]
هذا الضلال الذي وقع في قصة إبراهيم ما تقدم ذكره من ظنهم أنه قال إن الكوكب أو القمر أو الشمس رب العالمين وليس الأمر كذلك بل إبراهيم عليه السلام خاطب قومه المشركين الذين كانوا مع إقرارهم برب العالمين يعبد أحدهم ما يستحسنه ويهواه ويراه نافعا له فهذا يعبد المشتري وهذا يعبد الزهرة وهذا يعبد غيرهما كما كانت الكواكب تعبد وكان أعظم ما يعبد من ذلك الشمس والقمر لظهور تأثيرهما في العالم وكانوا ينسبون هياكل العبادات لهذه المعبودات فيقولون هيكل الشمس هيكل القمر هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الزهرة هيكل عطارد
وقد ذكر المصنفون لأخبارهم أن أحد مسجدي دمشق وحران كان هيكل المشتري والآخر هيكل الزهرة وكان إبراهيم عليه السلام قد ولد بحران كما هو معروف عند أهل الكتاب وجمهور المسلمين وكان أبوه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 370 ]
في ملك النمروذ وكان قد استولى على العراق وغيرها وكانوا صابئة فلاسفة يعبدون الكواكب
وقد صنف من صنف في مخاطبة الكواكب والسحر على مذهبهم مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم ونحو ذلك مما يذكر فيه مذهب الكلدانيين والكشدانيين وكانوا مع بنائهم هياكل النجوم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 371 ]
يبنون هيكل العلة الأول وهيكل العقل وهيكل النفس ويفرقون بين هذا وهذا وبقوا بحران وواسط أكثر من ثلاثمائة سنة في مدة الإسلام وتنازع الفقهاء في قبول الجزية منهم ومنهم من جعل للشافعي وأحمد قولين فيهم
واستقراء القول فيهم على التفصيل بأن من دان منهم بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا فدخلوا في النصرانية وشرح حالهم يطول
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 372 ]
والمقصود أن مخاطبة الخليل عليه السلام تضمنت الرد على الفلاسفة الصابئين المشركين وأمثالهم فإن أحدهم كانت عبادته تابعة لما يحبه ويهواه فإنهم إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وأحدهم يظن أن عبادة هذا الكوكب ومخاطبته تنفعه يجلب منفعة ودفع مضرة فيتخذه إلها مع إقراره بأنه مربوب ليس هو رب العالمين وهؤلاء أحد أنواع المشركين وكانوا تارة يتخذون لهذه الكواكب أجساما على ما يظنونه موافقا لطبائعها كما يلبسون لها من اللباس ويتختمون لها بالخواتيم ويتحرون لها من الأيام ما يظنونه موافقا لطبائعها وقد سمي ذلك علم الإستخدام والروحانيات وقد يتمثل لأحدهم شيطان يخاطبه فيقول هذه روحانية الكوكب أو خادمه كما كان لأصنام العرب شياطين تخاطبهم
وكذلك في بلاد الترك والهند من الشياطين التي تخاطب المشركين ما
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 373 ]
هو معروف ولهذا قال الخليل في آخر أمره إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فتبرأ عما كانوا يشركونه بالله وذكر أنه وجه قصده وعبادته للذي فطر السماوات والأرض وهذه الحنيفية ملة إبراهيم التي بعث الله بها الرسل وهي عبادة الله وحده لا شريك له وليس في لفظه إحداث إقرار الصانع بل كان الإقرار بالصانع ثابتا عندهم لهذا قال في الآية الأخرى قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
وقا أيضا قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
فبهذا وغيره يتبين أن القوم كانوا مشركين بالله مثل ما كان مشركوا العرب قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فهم يجعلون معه آلهة أخرى يعبدونها مع اعترافهم أنه وحده رب العالمين كما ذكر الله تعالى ذلك في غير موضع في القرآن في مثل قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 374 ]
وكانوا يتخذونهم شفعاء وشركاء كما أخبر القرآن بذلك ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين
فذكر أنه لا يحب الآفلين لأنهم كانوا على عادتهم على عادة المشركين يعبد أحدهم ما يحبه ويهواه ويتخذ إلهه هواه
وقوله لا أحب الآفلين كلام مناسب ظاهر فإن الآفل يغيب عن عابده فلا يبقى وقت أفوله من يعبده ويستعينه وينتفع به ومن عبد ما يطلب منه المنفعة ودفع المضرة فلا بد أن يكون ذلك في جميع الأوقات فإذا أفل ظهر بالحس حينئذ أنه لا يكون سببا في نفع ولا ضر فضلا عن أن يكون مستقلا
ولهذا قال إبراهيم في مناظرته لهم وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
وهذه محاجة قوم كانوا يخوفونه بآلهتهم كما هي عادة المشركين يخوفون من يكفر بطواغيتهم أي مضرة ذلك فقال الخليل وكيف أخاف ما أشركتم فعدلتموه بالله تعبدونه كما يعبد الله ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فإن الله لم ينزل كتابا من السماء ولم يرسل رسولا بعبادة شيء سواه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 375 ]
وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال النبي ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولكن نبهنا على المقصود
الوجه الخامس عشر
قوله فأقول إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة علية يعبر عنها