بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه الثاني عشر
قوله وإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل لك ذلك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير يتضمن أصلين فاسدين ليسا من أصول المسلمين بل من أصول الفلاسفة الضالة وهي أن ما يخبر به نبينا ص وغيره من الأنبياء من أمور الغيب إنما هو من جنس المنامات التي يراها الناس فإن النائم تضرب له الأمثال في منامه بنوع يشابه تأويل الرؤيا ولهذا كان مدار تأويل الرؤيا على معرفة القياس والاعتبار والرؤيا الصادقة وإن كانت جزأ من ستة وأربعين جزءا من أجزا النبوة وفي الصحيحين كان أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فرؤيا الأنبياء كمال قال ابن عباس وحي
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 317 ]
وقد لا تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده فأصبح يريد أن يذبحه حتى فداه الله وهذا قول المسلمين واليهود والنصارى خلاف ما يزعمه بعض الملاحدة كصاحب الفصوص من أن رؤياه كان تعبيرها ذبح الكبش وأن إبراهيم غلط في ذلك فلم يعرف تعبير الرؤيا حتى فداه ربه من وهم إبراهيم ما هو فداء في نفس الأمر وأنه قال إن هذا لهو البلاء المبين
أي الاختيار المبين أي الظاهر يعني الإختبار في العلم هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير
قال فغفل إبراهيم فما وفى الموطن حقه
ومعلوم عند كل مسلم أن هذا ليس من أقوال من يؤمن بالرسل ويقدر قدرهم لا سيما إبراهيم الخليل خير البرية بعد محمد كما ثبت ذلك في
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 318 ]
الحديث الصحيح أنه خير البرية ورواه مسلم في صحيحه وهو الأمة أي القدوة لجميع المؤمنين بعده
وهو الذي جعله للناس إماما واتخذه خليلا
وقد قال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
بل من رؤيا المؤمنين ما يكون مطابقا للظاهر لا يحتاج إلى تأويل فإذا كان في رؤيا المؤمنين والأنبياء ما لا يحتاج إلى تعبير بل يكون المرئي في المنام هو الموجود في اليقظة فكيف يكون القرآن كلام الله الذي أنزله بلسان عربي مبين وجعل هدى وبيانا مشتملا على ما هو من جنس أحاديث الرؤيا المفتقرة إلى التعبير ثم كيف يكون ذلك والرسول ثم الصحابة والتابعون لم يتأولوا القرآن ولم يعبروه بما يخالف مقتضاه ودلالته كما كانوا كثيرا ما يعبرون الرؤيا بما يخالف الظاهر المعروف منها والحقائق المخبر بها الظاهرة المعروفة في القرآن من أمر اليوم الآخر ونعوت الربوبية وإن كانت ليست مماثلة في الحقيقة الحقائق الموجودة في الدنيا كما قال ابن عباس ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء رويناه من حديث وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 319 ]
فذلك لايقتضي أن لا يكون الكلام دل عليها بطريق الحقيقة بل لا يمنع أن تكون هي الأسماء المذكورة في القرآن أحق من مسميات الدنيا حتى يقال إن دلالتها على مدلولها لا حقيقة له إلا ما يدل عليه بطريق التعبير كالرؤيا إذ من المعلوم أن ما رآه يوسف من سجود القمرين والكواكب ورؤيا الملك من البقر والسنبل لم يكن موجودا في الخارج وإنما هو في نفسه ومدلوله في الخارج سجود أبويه وإخوته وسنين الخصب والجدب فهل يقول من يؤمن بالله ورسله أن ما أخبر به الرسول من صفات ربه وصفات الملائكة واليوم الآخر وغير ذلك إنما هي أمور ذهنية لا وجود لها في الخارج بل لها تعبير كالرؤيا
وهل هذا إلا نسبة الرسل إلى الكذب الصريح فإن الخبر الذي يقوله الرائي لو أطلقه ولم يقل في المنام وأراد به تأويل الرؤيا لكان كاذبا باتفاق العقلاء
فلو قال مخبرا سجد لي الشمس والقمر والكواكب ولم يقل في المنام أو قال رأيت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ولم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 320 ]
يقل في المنام لكان كاذبا وكذبه جميع الناس إذ اللفظ لا يدل على ذلك لا حقيقة ولا مجازا ولو كان مجازا لم يجز ذكره إلا بقرينة تبين المراد
وإذا قال رأيت هذا في المنام كان مصدقا في أنه رأى في المنام كذلك وإن لم يكن تأويله في اليقظة كذلك لعلم الناس أن ما يرى في المنام لا يجب أن يكون هو التأويل في اليقظة بل يكون مشابها له من بعض الوجوه ولم يقل أحد من الأمم أن مجرد المشابهة التي بين المرئي في المنام وبين تأويل الرؤيا يكفي في استعمال اللفظ على وجه الاستعارة بل لو تخاطب الناس بمثل هذا لم يفهم أحد ما أراد غيره وللاستعارة والتشبيه حدود معروفة في الخطاب
وأما الرؤيا وتأويلها فباب لا ينضبط له حد وقد يكون تأويلها لا يشبهها إلا بوجه بعيد لا يهتدي له إلا حذاق المعبرين
ولا ريب أن هذا الذي ذكره هو من أصول الفلاسفة القرامطة الباطنية في ردهم ما أخبر به الرسول من المعاد وغيره إلى أمثال مضروبة لكن أهل الملل يعلمون بالاضطرار أن هذا باطل وأن هذا نسبة للأنبياء إلى الكذب الصريح ويعلمون بالاضطرار أن الرسل لم تقصد مجرد ما يذكرونه ثم من المعلوم أن الرؤيا إن لم يعلم تعبيرها لم يكن فيها فائدة بل قد يضل الرائي إذا حملها على ظاهرها فإذا كان القرآن ونحوه كذلك لا بد له من مثل هذا التعبير وهو التأويل عند هؤلاء القرامطة فأحق الناس بمعرفة ذلك الصحابة ولا بد أن يبينه الرسول ولو لخواصهم بل يجب أن يبين أيضا لعوامهم وإلا كان ذلك إضلالا لهم ودعاء لهم إلى العقائد الفاسدة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 321 ]
ومن المعلوم بالتواتر علما ضروريا لمن له خبرة متوسطة بأحوال الصحابة أنهم كانوا أعظم الخلق منافاة لمثل هذه التحريفات التي يسمونها التعبير والتأويل خاصتهم وعامتهم وأن جميع ما ينقل عنهم مما يخالف الظاهر المعروف فهو كذب مفترى مثل ما يزعم أهل البطاقة والجفر ونحو ذلك مما يدعونه من العلوم الباطنة المنقولة عن علي كرم الله وجهه وأهل البيت رضي الله عنهم وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن علي رضي الله عنه المتلقاة بالقبول ما يكذب ذلك كقوله لما قيل له هل عهد
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 322 ]
إليكم رسول الله عهدا لم يعهده إلى الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة فكان فيها العقل يعني عقل القتيل وهو أسنان الديات وفيها افتكاك الأسير وفيها لا يقتل مسلم بكافر
وكذلك في الصحيح عنه أنه قال ما عندنا من رسول الله كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة وفيها المدينة حرام ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ونحو ما تقدم ومثل هذا عن علي رضي الله عنه كثير
وكذلك ما يذكره بعض الناس عن عمر أنه قال كان النبي وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما
فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة لم يروه أحد منهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا يذكره إلا من هو من أجهل خلق الله بأحوال الصحابة رضي الله عنهم وإن كان فيمن يذكره من ينتسب إلى التحقيق والتوحيد والعرفان
وأما حديث أبي هريرة حفظت عن رسول الله جرابين
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 323 ]
أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم فهذا صحيح لكن الذي كان في الجراب الآخر إنما هو الإخبار عن الفتن التي تكون في الأمة كما قال ابن عمر لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتخربون بيت ربكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة
ولم يكن في الجراب باتفاق العلماء ما يدعيه هؤلاء ولا كان أبو هريرة عندهم من الخواص الذي ينفرد بعلم أسرارهم وحقائقهم وإنما الذي يذكر عنه أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره فهو حذيفة وكان ذلك السر معرفته بأعيان المنافقين وكان أحفظهم لأحاديث الفتن لا لأنه خص بعلمها بل لأنه اعتنى بها كما ثبت ذلك عنه
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 324 ]
ثم كيف يصح أن يكون القرآن بمنزلة أحاديث الرؤيا هذا والقرآن موصوف بأنه هدى وبيان للناس وأن على الرسول البلاغ المبين وأي بيان أو بلاغ مبين فيما هو من جنس الرؤيا التي لها تعبير ولم يخبر بتعبيرها ومن المعلوم أن هذه الأحاديث النبوية المتواترة وآثار الصحابة والتابعين كلها توافق ما يفهم من القرآن وتمنع أن يكون المراد ما يراد بالرؤيا من التعبير ثم هل يقول مؤمن عاقل إن الشمس والقمر والنجوم في قوله والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره تأويلها من جنس تأويل قول يوسف رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين وأن السنبل في قوله مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل من جنس السنبلة في قول الملك سبع سنبلات خضر
وأن البقرة في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وقوله ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين كالبقر في قول الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وأن المراد بالخمر في قوله إنما الخمر والميسر كالمراد بالخمر في قول أحد صاحبي السجن إني أراني أعصر خمرا وأمثال ذلك
ولكن من زعم أن ما رآه الخليل من الكواكب والشمس هي إشارة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 325 ]
إلى أمور من هذا الجنس كالنفس والعقل لم ينكر أن يقول ما يتشأبه هذا ومن طرد هذا القياس جعل المراد بالصلاة معرفة أسرارهم والمراد بالصوم كتمان أسرارهم والمراد بالحج قصد شيوخهم المقدسين ويدي أبي لهب أبو بكر وعمر واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين و علمت نفس ما قدمت وأخرت علم جبرائيل بتقديم محمد وتأخير علي وأئمة الكفر طلحة والزبير و لئن أشركت ليحبطن عملك لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية ونحو ذلك من تأويلات القرامطة فإنهم أئمة هذا الباب الذي كانوا به أضل الناس عن سواء السبيل وهو في الأصل إنما صدر عن زنادقة منافقين أرادوا التلبيس به على جهال المسلمين في الظاهر وخالفوهم في الباطن وإذا لقوا الذين آمنوا
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 326 ]
قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون
وذكر مثل هذا طويل ليس هذا موضع استقصائه
الأصل الثاني من الأصلين الفاسدين كون روح العبد تطالع اللوح المحفوظ فإن هذا هو قول هؤلاء من المتفلسفة القرامطة أن اللوح المحفوظ وهو العقل الفعال أو النفس الكلية وذلك ملك من الملائكة وأن حوادث الوجود منتقشة فيه فإذا اتصلت به النفس الناطقة فاضت عليها
وكل من علم ما جاء به الرسول يعلم بالاضطرار أن مراده باللوح المحفوظ ليس هو هذا ولا اللوح المحفوظ ملك من الملائكة باتفاق المسلمين بل قد أخبر أنه قرآن مجيد في لوح محفوظ وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون كما قال في الآية الأخرى فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة
وقال وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم وقال وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وقال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال وما من دابة في الأرض ولا
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 327 ]
طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء على أصح القولين وقال تعالى ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض أن ذلك في كتاب أن ذلك على الله يسير وقال وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير
ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن أرواح كل من رأى مناما تطلع على اللوح المحفوظ بل قد جاء في الحديث أنه لاينظر فيه غير الله عز وجل في حديث أبي الدرداء
ثم اللوح المحفوظ فوق السماوات والنفس والعقل اللذان يذكرونهما متصلان بفلك القمر دون ما فوقهما من العقول والنفوس
وقوله إن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير للصحابة فإن التقليد غالب عليك
يقال له إنما لم أحتمل هذا النمط لأني أعلم بالاضطرار أنه باطل وأن الله لم يرده فردي للقرمطة في السمعيات كردي للسفسطة في العقليات وذلك كردي لكل قول أعلم بالاضطرار أنه كذب وباطل ولو نقل مثل هذا النمط عن أحد من الصحابة والتابعين لعلمت أنه كذب عليهم ولهذا تجد القرامطة ينقلون هذا عن علي عليه السلام ويدعون أن هذا العلم الباطن
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 328 ]
المخالف لما علم من الظاهر مأخوذ عنه ثم لم يستفيدوا بهذا النقل عن علي عليه السلام عند المسلمين إلا زيادة كذب وخزي فإن المسلمين يعلمون بالإضطرار أن عليا لا يقول مثل هذا وأهل العلم منهم قد علموا بالنقول الصحيحة الثابتة عن علي ما يبين كذب هذا ويبين أن من ادعى على علي أنه كان عنده عن النبي علم خصه به فقد كذب كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
وقد دخل كثير من هذه القرمطة في كلام كثير من المتصوفة كما دخل في كلام المتكلمة وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير قطعة من هذا الجنس عن جعفر الصادق رضي الله عنه
وأهل العلم بجعفر وأحوال يعلمون قطعا أن ذلك مكذوب على جعفر كما كذب عليه الناقلون عنه الجدول في الهلال وكتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء والرعود والبروق ونحو ذلك مما هو من كلام أهل النجوم والفلسفة ينقلونه عن جعفر وأهل العلم بحاله يعلمون
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 329 ]
أن هذا كله كذب عليه بل أعجب من ذلك ظن طوائف أن كتاب رسائل إخوان الصفا هو عن جعفر الصادق وهذا الكتاب هو أصل مذهب القرامطة الفلاسفة فينسبون ذلك إليه ليجعلوا ذلك ميراثا عن أهل البيت وهذا من أقبح الكذب وأوضحه فإنه لا نزاع بين العقلاء أن رسائل إخوان الصفا إنما صنفت بعد المائة الثالثة في دولة بني بويه قريبا من بناء القاهرة
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة من كلام أبي الفرج بن طراز مع بعض واضعيها ومناظرته لهم ومن كلام أبي
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 330 ]
سليمان المنطقي فيهم وغير ذلك ما يتبين به بعض الحال وفيها نفسها بيان أنها صنفت بعد أن استولى النصارى على سواحل الشام ومن المعلوم بالتواتر أن استيلائهم على سواحل الشام كان بعد المائة الثالثة وجعفر رضي الله عنه توفي سنة ثمان وأربعين ومائة قبل وضع هذه الرسائل بنحو مائتي سنة فهذا وأمثاله يبين أن نقل مثل هذه التحريفات التي قد سماها تأويلا وتعبيرا عن الصحابة وأهل البيت والمشايخ لا يزيدها عند أهل العلم والإيمان إلا علما بكذب منتحليها وعلما بجهلهم وضلالهم فلا يظن أن مجرد النقل والرواية ينفق الباطل عند أهل العلم والإيمان كما قد ينفق عليه وعلى أمثاله من النقول الباطلة ما لا يعلمه إلا الله لقلة علمهم بالحديث والآثار وأحوال السلف وعلومهم كما ينفق عليهم من المقولات الفاسدة ما لا يعلمه إلا الله تعالى فإن أهل العلم والإيمان مؤيدون بصحيح المنقول وصريح المعقول
وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين فذلك إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي لفظ القرآن ومعانيه جميعا كما ثبت ذلك عنهم مع أن هذا مما يعلم بالضرورة عن عادتهم فإن الرجل لو صنف
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 331 ]
كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك وحفظه تلامذته لكان يعلم بالإضطرار أن هممهم تشوق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده وإن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب فكيف بكتاب الله الذي أمر ببيانه لهم وهو عصمتهم وهداهم وبه فرق الله بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه والعمل بما فيه وهم يتلقونه شيئا بعد شيء كما قال تعالى وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا الآية وقال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا
وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ولا ما يقرؤونه ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ولا يسألونه عن ذلك ولا يبتدىء هو بيانه لهم هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله
ومن زعم أنه لم يبين لهم معاني القرآن أو أنه بينها وكتموها عن التابعين فهو بمنزلة من زعم أنه بين لهم النص على علي وشيئا آخر من الشرائع والواجبات وأنهم كتموا ذلك أو أنه لم يبين لهم معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك مما يزعم القرامطة أن له باطنا يخالف الظاهر كما يقولون إن الصلاة معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وهو نظير قولهم أن أبا بكر وعمر كانا منافقين
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 332 ]
قصدهما إهلاك الرسول وأن أبا لهب أقامهما لذلك وأنهما يدا أبي لهب وهو المراد في زعمهم بقوله تبت يدا أبي لهب وتب وقولهم إن الإشراك الذي قال الله لئن أشركت ليحبطن عملك هو إشراك أبي بكر وعلي في الولاية وأن الله أمره بإخلاص الولاية لعلي دون أبي بكر وقال لئن أشركت بينهما ليحبطن عملك ونحو ذلك من تفسير القرامطة
فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين لعلمنا بأنهم بلغوا عن الرسول ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم وأنهم علموا معنى ما أنزل الله على رسوله تلقيا عن الرسول فيمتنع أن نكون نحن مصيبين في فهم القرآن وهم مخطئون وهذا يعلم بطلانه ضرورة عادة وشرعا
الوجه الثالث عشر
أن أبا حامد في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة مع أنه قد توسع فيه في تأويلات المحرفين غاية التوسع وذك
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق