الاثنين، 11 يناير 2016

أولياء الرحمن وأولياء الشيطان قال ابن تيمية: لكل نبي شرعة ومنهاج فصل والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين : هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج

أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
قال ابن تيمية:


لكل نبي شرعة ومنهاج
فصل والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين : هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج فالشرعة : هي الشريعة قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } والمنهاج : هو الطريق قال تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا }
فالشرعة بنزله الشريعة للنهر والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له وهي حقيقة دين الاسلام وهي أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره فمن استسلم لغيره كان مشركا والله { لا يغفر أن يشرك به } ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 68 ]  


الإسلام دين الأنبياء
ودين الاسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } عام في كل زمان ومكان
فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الاسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى عن نوح : { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }
وقال السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }
وقال يوسف عليه السلام : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين }
وقالت بلقيس : { أسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال تعالى : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } وقال الحواريون : { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 69 ]  


دين واحد وشرائع منوعة
فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ] قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }


الأنبياء أفضل من الأولياء بالاتفاق
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب فقال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 70 ]  


أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر
وفي الحديث : [ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ] وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ]


خير القرون
وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : [ خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه


أفضل السابقين الأولين
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسم انه قال : [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ]
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة
قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } والسابقون الأولون : الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح : صلح الحديبية فإنه كان من أول فتح مكة وفيه أنزل الله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقالوا : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : [ نعم ]
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذاكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 71 ]  


الكلام على خاتم الأولياء
وقد ظن طائفة غالطة أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته


مزاعم ابن عربي
كما زعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأولياءه كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم : لا عقل ولا قرآن
وذلك أن الأنبياء أفضل في زمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ ! والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : [ أنا سيد آدم ولا فخر ] وقوله : [ آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ]


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 72 ]  


احتياج شريعة عيسى عليه السلام إلى النبوات السابقة
وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان احقهم بقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق بخلاف المسيح احالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء فكان ما فضله الله بما به أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر
وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 73 ]  


هل للولي طريق لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ادعى أن من الأولياء بالذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا : إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفار بذلك


إيمان الأولياء بين الباطن والظاهر
وكذلك هذا الذي يقول : إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الايمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الاسلام الظاهرة


كفر من يدعي ان محمدا صلى الله عليه وسلم علم من الأمور ظاهرها وان الأولياء علموا باطنها
فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الايمان وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول : أومن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 74 ]  


لا مثيل لولاية محمد صلى الله عليه وسلم على الاطلاق
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة ويلبسون على الناس فيقولون : ولايته أفضل من نبوته وينشدون :
( مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي )
ويقولون : نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله فيها هؤلاء الملحدون
وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته


ادعاؤهم بوحدة معدن الأنبياء والأولياء
وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا : إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وأتباعه : أولها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله ولايقولون : إنها لرب خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته ولا يعلم الجزيئات بل إما أن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو أو يقولوا : إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقول ابن سينا وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها فان كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الافلاك كل معين منها جزئي وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى بل ومشركي العرب فإن جميع هؤلاء يقولون : إن الله خلق السماوات والأرض وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته
و أرسطو ونحو من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام وهم لا يعرفون الملائكة والانبياء وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية


فساد تلفيق ابن سينا في الأمور الإلهية
وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اعلم بالهيئات منهم بكثير ولكن متأخروهم كابن سينا ( غيره ) أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة اهل الملل وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع
وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم واعترفوا بالناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد أثبتوا عقولا عشرة يسمونها : المجردات والمفارقات
وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك : المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلوها جواهر


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 76 ]  


خصائص النبوة عند ابن سينا وغيره من المتفلسفة
وهذه المجردات التي أثبتوها ترحع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان ( كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعدادا مجردة و ) كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الافلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي :
ا - أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم
2 - وأن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى
3 - وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي ( من ) قوى الأنفس فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 77 ]  


نقد آراء ابن سينا
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وليسوا عشرة ولسوا أعراضا لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول وعنه صدر كل ما دونه والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر


كذب الحديث الذي ذكروه في العقل ونقضه لغة وشرعا
وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحج من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى : [ إن أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل فقال له : أدبر فأدبر فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] ويسمونه أيضا القلم لما روي [ إن أول ما خلق الله القلم ] الحديث رواه الترمذي
والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي و الدارقطني و ابن الجوزي وغيرهم وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها ومع هذا فلفظه لو كان ثابتا حجة عليهم فإن لفظة [ أول ما خلق الله تعالى العقل ] قال : - ويروى - [ لما خلق الله العقل قال له ] فمعنى الحديث : أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وليس معناه أنه أول المخلوقات ( وأول ) منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر ( لما ) وتمام الحديث [ ما خلقت خلقا أكرم علي منك ] فهذا يقتضي أنه خلق قبل غيره ثم قال : [ فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب ] فذكر اربعة أنواع من الأعراض وعندهم ان جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا ؟
وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا كما في القرآن { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها
وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام : العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر وقد يسمي ( العقل ) عالم الجبروت ( والنفوس عالم الملكوت ) و ( الأجسام ) عالم الملك ويظن من لم يعرف لغه الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا وليس الأمر كذلك


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 79 ]  


التحقيق في المخلوق والمحدث والقديم الأزلي
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفلك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي : محدثا والله قد أخبر أنه خالق كل شيء وكل مخلوق فهو محدث وكل محدث كائن بعد أن لم يكن لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول ولا أحكموا فيها قضايا العقول فلا للاسلام نصروا ولا للأعداء كسروا وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بسط في غير هذا الموضع


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 80 ]  


ما بناه ابن عربي على فساد الفلاسفة من وهم وما اجترحه من خلط في أمر النبوة
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والخيال تابع للعقل فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب الفتوحات و الفصوص فقال : إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول والمعدن عنده هو العقل والملك هو الخيال والخيال تابع للعقل وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه ولم يكن هو من جنسة فضلا عن أن يكون فوقه فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين ؟ ! والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض و إبراهيم بن أدهم و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي و الجنيد ابن محمد و سهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين


صفات الملائكة في القرآن
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 82 ]  


نفي صفة الخيال عن جبريل
وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم عليه السلام في صورة البشر وأن الملك تمثل لمريم بشرا سويا وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراه الناس كذلك
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة { عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } وأن محمدا صلى الله عليه وسلم { رآه بالأفق المبين } ووصفه بأنه { شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى }
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأن الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء والعقلاء وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء


الكشف عن غاية المتصوفة من الفلاسفة من أفكار أصول الإيمان ومجد الخالق
وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الأيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق


نقد فكرتي الحلول ووحدة الوجود
وقالوا : الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود كما تشترك الأناسي في مسمى الانسان والحيوانات في مسمى الحيوان ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الانسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس ووجود السماوات ليس هو بعينه وجود الانسان فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته
وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الموجود والمشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له وهؤلاء وافقوه في ذلك لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم ولهذا جعلوا عباد الاصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا : لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف - وإن جاز في العرف الناموس - لذلك قال : أنا ربكم الأعلى - أي وأن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم
قالوا : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا : { اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة } قالوا : فصح قول فرعون : { أنا ربكم الأعلى }
وكان فرعون عين الحق ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم
وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله وهم أعظم الناس ولاية للشيطان نبهنا على ذلك ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات ( باب أرض الحقيقة ) ويقولون : هي أرض الخيال
فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال ومحل تصرف الشيطان فإن الشيطان يخيل للأنسان الأمور بخلاف ما هي


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 85 ]  


كيف تتلبسهم الشياطين فيظنونها ملائكة
قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } إلى قوله : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } وقال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب }
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : أنه رأى جبريل يزع الملائكة والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته
قال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } وقال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين }


كذاب ثقيف ومبيرها
وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الاسلام : المختار ابن أبي عبيدالذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ سيكون في ثقيف كذاب ومبير ] وكان الكذاب : المختار ابن أبي عبيد والمبير : الحجاج بن يوسف فقيل لابن عمر وابن عباس إن المختار يزعم أنه ينزل إليه فقالا : صدق قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم }
وقال الآخر : وقيل له : إن المختار يزعم أنه يوحي إليه فقال : قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 86 ]  


تفنيد مزاعم ابن عربي
وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين وهذه مما تتفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء


احواله الشيطانية
وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به ومنهم من كاتت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو لعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحوذلك
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية و الفصوص


مدحه الكفار
وأشباه ذلك يمدح الكفار مصل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم وينتقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 87 ]  


عقيدته في القديم والمحدث
فإن الجنيد - قدس الله روحه - كان من أئمة الهدى فسئل عن التوحيد فقال : التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق
وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد ! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟ فخطأ الجنيد في قوله : إفراد الحدوث عن القدم لأن قوله هو : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قاله في فصوصه : ومن أسمائه الحسنى : ( العلي ) على من ؟ وما ثم إلا هو وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو إلى أن قال :
هو عين ما بطن وهو عين ماظهر وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات
فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره وليس هو ثالثا فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده كما نطق بذلك القرآن غير غير موضع والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا


زعمهم أن القرآن شرك لأنه خالف الفصوص
وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في اتحادهم - لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما ؟ فقال : الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام فقلنا : حرام عليكم


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 88 ]  


نقد فكرة وحدة الوجود
وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر فإن الوجود إذا كان واحدا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟ قالوا لآخر : هذه مظاهر فقال لهم : المظاهر غير المظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم وإن صاحب الفصوص يقول : المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما فيفرق بين الوجود والثبوت
والمعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا : إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق وصاحبه الدرالقونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 89 ]  


القول في تعطيلهم الخالق القول في تعميم الألوهية
وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه فإن المطلق بشرط الأطلاق وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي وإن قيل : إنه موجود في الخارج فلا يوجد إلى معينا وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وله يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه ؟ أم العدم يخلق الوجود ؟ أو يكون بعض الشيء خالقا لجميعه ؟
وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالا ومحلا ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وعندهم الوجود واحد ويقولون : النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا
وكذلك يقولون في عباد الأصنام : إنما أخطأوا لما عبدوا بعض الظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 90 ]  


القول في طلبهم ترك العقل و الشرع
وهذا ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض لأنه يقال لهم : فمن المخطىء ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التبي يوصف بها المخلوق ويقولون : إن المخلوقات يوصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق ويقولون ما قاله صاحب الفصوص : فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك وهؤلاء يقولون ماكان يقوله التلمساني إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون من أراد التحقيق - يعني تحقيقهم - فيترك العقل والشرع
وقد قلت لمن خاطبته منهم : ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم وخبرهم أصدق من خبر غيرهم والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل ؟ !
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب لكم يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين وتكون من تلبيسات الشياطين


تقديمهم الأولياء على الأنبياء وقولهم بعدم انقطاع النبوة
وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء ويذكرون أن النبوة لم تنقطع


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 91 ]  


القول في المعصية
كما يذكر عن ابن سبعين وغيره ويجعلون المراتب ثلاثة : يقولون : العبد يشهد أولا طاعة ومعصية ثم طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية والشهود الأول هو الشهود الصحيح وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي وأما الشهود الثاني فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول : أنا كافر برب يعصى وهذا يزعم أن المعصية : مخالفة الإرادة التي هي المشيئة والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم :
( أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات )
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى : { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد ومن خالفه ضل لأنهم تكلموا بأن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول فبين لهم الجنيد أنه لا بد من شهود الفرق الثاني وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه وبين ما ينهى عنه ويكره ويسخطه ويفرق بين أوليائه وأعدائه كما قال تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } وقال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون }
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا رب غيره وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهو لايحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم
وأما المرتبة الثالثة : أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد وعندهم أن هذا غاية التحقيق والولاية لله وهو في الحقيقة غاية الالحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 93 ]  


القول في قصيدة نظم السلوك وتوهم ابن الفارض الالوهية
وقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة : بنظم السلوك يقول فيها :
( لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت )
( كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة )
( وما كان لي صلى ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة )
إلى أن قال :
( ما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت )
( إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت )
( فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت )
إلى أمثال هذا الكلام ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد ويقول :
( إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي )
( أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام )
فإنه كان يظن أنه هو الله فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين بطلان ما كان يظنه وقال الله تعالى : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فجميع ما في السماوات والأرض يسبح لله ليس هو الله ثم قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم }
وفي صحيح مسلم [ عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه : اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والانجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر ]
ثم قال تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } فذكر أن السماوات والأرض وفي موضع آخر : { وما بينهما } مخلوق مسبح له وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 95 ]  


معية الله بعلمه لا بذاته وهي عامة وخاصة
وأما قوله : { وهو معكم } فلفظ { مع } لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى : { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } وقوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } ولفظ { مع } جاءت في القرآن عامة وخاصة فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم ولهذا قال ابن عباس و الضحاك و سفيان الثوري و أحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه
وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقوله تعالى لموسى : { إنني معكما أسمع وأرى } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى وهارون دون فرعون ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين
فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك وقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماوات وإله من في الأرض كما قال تعالى : { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } وكذلك قوله تعالى : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } كما فسره أئمة العلم كـ الإمام أحمد وغيره : أنه المعبود في السماوات والأرض


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 96 ]  


ال قول في الصفات ليس كمثله شيء
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص ويعلم أنه ليس كمثله شيء ولا كقوله في شيء من صفات الكمال كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } وقال ابن عباس : الصمد : العليم الذي كمل في علمه والعظيم الذي كمل في عظمته القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته السيد الكامل في سؤدده
وقال ابن مسعود وغيره : هو الذي لا جوف له والأحد : الذي لا نظير له فاسمه ( الصمد ) يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه واسمه ( الأحد ) يتضمن اتصافه أنه لا مثل له
وقد بسطنا الكلام على تفسير ذلك في هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 97 ]  


الله تعالى خالق كل شيء ومليكه
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الايمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله ونهى عن معصيته ومعصية رسله أمر بالتوحيد والاخلاص


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 98 ]  


الشرك أعظم الذنوب أوامر الله ونواهيه
ونهى عن الاشراك بالله فأعظم الحسنات التوحيد وأعظم السيئات الشرك قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }
وفي الصحيحين [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ] فأنزل الله تصديق ذلك : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما }
وأمر سبحانه بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأخبر أنه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهو يكره ما نهى عنه كما قال في سورة ( سبحان ) : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }
وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق ونهى عن التبذير وعن التقتير وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه وأن يبسطها كل البسط ونهى عن قتل النفس بغير الحق وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 99 ]  


دعاء النبي لله واستغفاره
وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما قال الله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ]
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ]
وفي السنن عن ابن عمر قال : [ كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ] أو قال : [ أكثر من مائة مرة ]
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار [ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ]
كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار
وكذلك ختم سورة ( المزمل ) وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }
وكذلك قال في ( الحج ) : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }
بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } وهي من آخر ما نزل من القرآن
وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم [ كان يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي - يتأول القرآن ]
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه [ كان يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسرت وما أعلنت لا إله إلا أنت ]
وفي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال : [ يا رسول الله علمني دعاء أدعوا به في صلاتي قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ]
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال : [ يا رسول الله ! علمني دعاء أدعوا به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال : قل : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا إخذت مضجعك ]


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 102 ]  


عدم الاصرار على الذنب من محبة الله للعبد
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }
فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبته عباده الصالحين ومغفرته لهم
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ] وهذا لا ينافي قوله : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب
وقول من قال : إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والأستغفار فلم يصر على الذنوب ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }


 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان    [ جزء 1 - صفحة 103 ]  





الكتاب :-
كتاب اولياء الرحمن واولياء الشيطان
لابن تيمية 
عدد الاجزاء : ١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق