بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه السادس
أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 252 ]
هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الاعراض لا من قبيل الجواهر
وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلا كما يجيء في القرآن وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
وهذا كثير وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعا وكذلك البصر فإنه مثل الإبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع سمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل
ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر بن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 253 ]
ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العملي وهو العمل بمقتضى العلم
وأما تسمية الشخص العاقل عقلا أو الروح عقلا فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخص بالمصدر فيسمى
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 254 ]
عدلا وصوما وفطرا فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلا وشربا ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال فليس لأحد أن يضع هو مجازا لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله وكلام من تكلم قبله إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز
فليس لأحد أن يسمى الجوهر القائم بنفسه عقلا ثم يحمل عليه كلام النبي
ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم
وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل لو كان ثابتا على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلا
ومن تدبر ما يوجد من كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل مقولا على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة ولا على ما يقال أنه ملك من الملائكة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 255 ]
ولا يسمون أحدا من الملائكة عقلا ولا الله تعالى عقلا إلا من أخذ ذلك عن الفلاسفة
هذا مع أنه مذكور في كتب الأصول والكلام في ذلك فيه من النزاع أقوال كثيرة تنازع فيها أهل الكلام وأهل النظر المنتسبين إلى الإسلام ثم إن قول المتفلسفة عندهم قول آخر
واعلم أن المقصود في هذا المقام أن لفظ العقل لا يعبر به عن جوهر قائم بنفسه لا عن ملك ولا غيره في عبارة رسول الله وأصحابه والتابعين وسائرعلماء المسلمين فلا يجوز أن يحمل شيء من كلامهم المذكور فيه لفظ العقل على مراد هؤلاء المتفلسفة بالعقول العشرة ونحو ذلك فينقطع دابر من يجعل لهم عمدة في الشريعة من هذا الوجه
ثم بعد هذا النزاع بين الناس في فرعين
أحدهما أن العقل الذي هو الإنسان ما هو
الثاني أن ما يعنيه المتفلسفة بلفظ العقل هل له وجود أم لا
وقد ذكروا في كتب الأصول النزاع في ذلك جملة كما يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الوفاء بن عقيل
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 256 ]
وأبو المعالي الجويني وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني والقاضي أبو بكر بن العربي المعافري وأكثر أهل الكلام
فإن هؤلاء يختارون أن العقل الذي هو مناط التكليف هو ضرب من العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين ونقصان الواحد عن الاثنين والعلم بموجب العادات فإذا أخبره
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 257 ]
مخبر بأن الفرات يجري دراهم لا يجوز صدقه ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه وحمل ثمرة وإدراكها في ساعة واحدة لا ينتظر ذلك ليأكل منها وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله لا يهرب فزعا فإذا حصل له العلم بذلك كان عاقلا ولزمه التكليف
ثم قد نقل عن طوائف من الأئمة والعلماء ما يقتضي أنه القوة التي يعقل بها
وعن طوائف ما يقتضي أنه قد يكون مكتسبا فروى أبو الحسن التميمي في كتاب العقل عن محمد بن أحمد بن مخزوم عن إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل أنه قال العقل غريزة والحكمة فطنة والعلم سماع والرغبة في الدنيا هوى والزهد فيها عفاف
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 258 ]
وقد فسر القاضي أبو يعلى ذلك بأن قوله غريزة أنه خلق لله ابتداء وليس باكتساب
وذكر عن أبي محمد البربهاري أنه قال ليس العقل باكتساب إنما هو فضل من الله
وذكر عن أبي الحسن التميمي أنه قال في كتاب العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر وإنما هو نور فهو كالعلم
وعن بعضهم أنه قال هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات
وعن أبي بكر بن فورك أنه قال هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح
وعن بعضهم أنه ما حسن معه التكليف
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 259 ]
ثم قال القاضي ومعنى ذلك كله متقارب ولكن ما ذكرناه أولى لأنه مفسر خلافا لما حكي عن قوم من الفلاسفة أنه اكتساب وقال قوم هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض وعن قوم هو مادة وطبيعة
وقال آخرون هو جوهر بسيط
قلت وبعض هذه الأقوال التي خالفها هي نحو من الأقوال التي جعلها متقاربة
فإن من قال هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح لم يحد العقل الذي هو مناط التكليف الذي يفرق به بين العاقل والمجنون الذي حدوه هم وجعلوه ضربا من العلوم الضرورية بل هذا العقل هو من مناط النجاة والسعادة وهو من العقل الممدوح الذي صنفت الكتب فضل في فضيلة
والذي حدوه أولا قد يفعل صاحبه أنواع القبائح ويكون ممن قيل فيه لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 260 ]
وهذا العقل الممدوح قد يكون اكتسابا
وأيضا من قال هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض فقوله موافق لقول من قال هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات وقول أحمد هو غريزة يتناول هذه القوة ولهذا فرق بين ذلك وبين العلم
وأبو الحسن التميمي قال هو كالعلم ولم يقل هو من العلم فهنا أمور
أحدها علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رفع القلم عنه وبين العاقل الذي جرى عليه القلم فهذا مناط التكليف
والثاني علوم مكتبسة تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه وترك ما يضره فهذا أيضا لا نزاع في وجوده وهو داخل فيما يحمد بها عند الله من العقل ومن عدم هذا ذم وإن كان من الأول وما في القرآن من مدح من يعقل وذم من لا يعقل يدخل فيه هذا النوع وقد عدمه من قال لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
الثالث العمل بالعلم يدخل في مسمى العقل أيضا بل هو من أخص ما يدخل في اسم العقل الممدوح
وهذان النوعان لم ينازع الأولون في وجودهما ولا في أنهما يسميان عقلا ولكن قالوا كلامنا في العقل الذي هو مناط التكليف للفرق بين العاقل والمجنون وهذان لا يدخلان في ذلك فالنزاع فيهما لفظي
الأمر الرابع
الغريزة التي بها يعقل الإنسان فهذه مما تتوزع في وجودها فأنكر كثير من الأولين أن يكون في الإنسان قوة يعلم بها غير العلم أو قوة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 261 ]
يبصر بها غير البصر أو قوة يسمع بها غير السمع وجعلوا إثبات ذلك من جنس قول الفلاسفة والطبائعية الذين يجعلون في الإنسان قوى يفعل بها وقد بالغ في ذلك طوائف منهم القاضي أبو بكر بن العربي في العواصم والقواصم وأصل ذلك تقريرهم أن الله خالق كل شيء ولا خالق غيره وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة وهو أحسن ما امتاز به الأشعري عن طوائف المتكلمين وبالغ في ذلك حتى جعل أخص أوصاف الرب القدرة على الاختراع وزعم أن هذا معنى الإلهية وفي الأصل رد على القدرية القائلين بأن الله تعالى لم يخلق أفعال الحيوان وعلى الفلاسفة وأتباعهم من أهل النجوم والطبع القائلين بفاعل غير الله لكن زاد من زاد منهم في ذلك أشياء ليست من السنة بل تخالف السنة حتى ردوا بدعة ببدعة فدخل بعضهم في إثبات الجبر الذي أنكره السلف والأئمة حتى توسل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 262 ]
الأسباب حتى خرجوا عن الشرع والعقل وقالوا إن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما وكذلك يحدث النبات عند نزول المطر لا به ونحو ذلك وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة قال الله تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقال الله تعالى وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وقال تعالى وأحيينا به بلدة ميتا وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ومثل هذا كثير ونفى هذه الأسباب أن تكون أسبابا في الأمور المخلوقة هو شبيه بنفي طوائف من المتصوفة ونحوهم لما يأمرون به من أعمال القلوب وغيرها من الأمور المشروعة نظرا إلى القدر ودعوى التوكل كما بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع
ولهذا قال من نظر إلى هذين الانحرافين كابي حامد وابي الفرج بن الجوزي وغيرهما في كتاب التوكل اعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 263 ]
والسلف والأئمة متفقون على إثبات هذه القوى فالقوى التي بها يعقل كالقوي التي بها يبصر والله تعالى خالق ذلك كله كما أن العبد يفعل ذلك بقدرته بلا نزاع منهم والله تعالى خالقه وخالق قدرته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله
والحول اسم لكل تحول من حال إلى حال والقوة عام في كل قوة على الحول فنفي القوة كنفي الحول وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع فيما يقع من الاشتباه والنزاع في قدرة العبد هل هي مؤثرة في الفعل أو في بعض صفاته أو غير مؤثرة بحال
وقد وقع تسمية هذه القوة عقلا في كلام طوائف منهم أبو المعالي الجويني ذكر في أصول الفقه أن العقل معنى يدرك به العلم وجملة صفات الحي وكان يقول في التعليق أنه تثبيت سمة إدراك النفس
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 264 ]
وقد خالفه صاحبه أبو القاسم الأنصاري وقال هذا فيه نظر فاعلموه وقال المحققون من أئمتنا العقل هو العلم بدليل أنه يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وإن كان فرق بين اللفظين ففي إطلاق أهل العرف وتقييدهم وهذا كما أن العالم في الحقيقة ذو العلم سواء كان العلم علم الشريعة والدين أو غيره من العلوم وإذا أطلق مطلق فقال رأيت العلماء أو جاءني عالم فلا يفهم من إطلاقه أصحاب الحرف والصناعات بل لا يفهم منه إلا علماء الشريعة
وكذلك العقل إذا أطلق فإنما يراد به عقل التكليف وهو ما به يمكن التمييز والاستدلال على ما وراء المحسوس ويخرج به صاحبه عن حد المعتوهين وتسمية العقلاء عاقلا وهذا قول أبي الحسن وإنما قاله لأن النحل تراه ينسج أشكالا مسدسة يعجز عنها كثير من العقلاء وكذلك غير النحل من البهائم والجعل فلهذا قال العاقل من تسميه العقلاء عاقلا
والعقل المقيد يتناول جنس العلم فلهذا قال الشافعي رحمة الله عليه الحمام أعقل الطائر عنى به أكيس الطير
وقد ذكر أبو بكر بن فورك عن الأئمة في العقل أقوالا ثم زيفها وحملها على محامل
فنقل عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 265 ]
وحكى عن أبي العباس القلانسي قال العقل قوة التمييز
وعن الحارث المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر
ثم قال الوجه أن لا يصح ما ينقل عن هؤلاء الآئمة فإن الآلة تستعمل في الأجسام المبنية واستعمالها في الأعراض مجاز على أنا نقول كل حاسة من الحواس آلة التمييز وليس عقلا ولا المؤمنون بها عقلاء والكفار معهم عقول ومعهم آلة التمييز ثم لا يميزون بين الحق والباطل
فإن قالوا أردنا بذلك انه يصح بها التمييز والاستدلال والكفار يصح منهم ذلك
قلنا هذا يبطل بالدليل والنظر وقول الرسول والمفتي فإن كان واحد ممن ذكرناه يميز به بين الأحكام وليس ذلك من العقل في شيء فإن صحت هذه الحكاية فإن المعنى بها ما يقع به التمييز ويمكن معه الاستدلال على ما وراء المحسوس والخلاف يرجع إلى
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 266 ]
العبارة قال والشافعي رحمه الله تعالى لم يسلك مسالك المتكلمين ولم يراع ما راعوه وكذلك لا يعقل من القوة إلا القدرة
والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارة وكذلك المحاسبي إذ العقل ليس ببصيرة ولا نور ولكن يستفاد به الأنوار والبصائر
قال أبو القاسم الأنصاري ولا اختلاف بين أصحابنا في المعنى فقد سمى الله تعالى الإيمان نورا فقال أفمن شرح الله صدره للأسلام فهو على نور من ربه
وشيخنا الإمام يعني أبا المعالي أطلق ما أطلقه توسعا ولو كان العقل معنى يدرك به العلم فما العلم الذي يدرك به العقل وكيف يتميز أحدهما عن الآخر لا سيما والعلم عنده خارج عن قبيل الاعتقاد
قلت لا يخفى ما في هذا الكلام من الغض عن الأئمة الذين هم أحق بالحق منهم وكلامهم سديد فإن القوة التي جعل الله بها العلم والعمل لم ينكرها من العقلاء إلا من وافق هؤلاء على نفيها
وقول الشافعي وأحمد والمحاسبي ومن وافقهم قول واحد وإنما رد قولهم بالباطل
فأما قوله إن الآلة إنما تستعمل في الأجسام وهي من الأعراض مجاز فيقال له هذا ممنوع ثم الشافعي إنما استعملها مقيدة بالإضافة
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 267 ]
فلو كانت عند الإطلاق لا تتناول إلا جسما لكانت مع الإضافة التي ذكرها كقولهم أبرة الذراع وأرنبة الأنف وإنسان العين وقلب الأسد وقلب العقرب ونحو ذلك مما أحدثت فيه الإضافة فمن الناس من يقول هذا مجاز
والمحققون يعلمون أن هذا وضع جديد لم يستعمل فيه اللفظ في غير موضوعه إذ هذا المضاف لم يكن موضوعا لغير هذا المعنى ثم هب أن ذلك مجاز فأي عيب في ذلك إذا ظهر المقصود ومن الذي قال إن الحد والدليل لا يستعمل فيهما المجاز المقرون بما يبين معناه دع ما ليس حدا
وأما قوله فعلى طريقة من يفرق بين الحد والرسم وأما من يجعل المقصود بالحد هو التمييز بين المحدود وغيره كما هو مذهب المتكلمين فالجميع يسمى عنده حدا
وأما قوله كل حاسة من الحواس آلة التمييز فليس كذلك لأن الحاسة لا يميز بها بين الأشياء بل مجرد السمع الذي يدرك الصوت لا يميز بين الصوت وغيره بل يحس الصوت
ثم الحكم على الصوت بأنه غير اللون يعرف بغير الحاسة وهو العقل وبه يعرف غلط الحس إذا الأحول يرى الوحد اثنين والممرور يجد الحلو مرا لكن العقل به يميز سلامة الحس من فساده إذ
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 268 ]
قد استقر عنده ما يدرك بالحس السليم فإذا رأى من له عقل حسا يدرك به خلاف ذلك علم فساده ونظر في سبب فساده وكذلك المجنون قد يرى أحمر وأحمر وأبيض وأبيض ولا يميز بين الدينار وبين الدرهم وغيره ولا بين الأيام ولا بين ثوبه وثوب غيره وفعله وفعل غيره مع وجود حسه
وأما الكفار فلهم التمييز الذي يصح معه التكليف الذي به فارقوا المجنون وليس من شرط عقل الكل تمييز كل حق من كل باطل بل هذا لا يوجد لعامة الخلق
وأما نقضه بالدليل والنظر فذلك يميز به شيء بعينه ليس هو آلة لكل تمييز والعقل آلة لكل تمييز فيه يميز بين دليل ودليل ونظر
وأما قول أبي القاسم لو كان العقل معنى يدرك به العلم فبم يميز العلم عنه فقول ضعيف
فإنه إذا كان يميز بين أنواع العلم فيميز بين الضروري وغيره وما يحصل بالحواس وغيره فكيف لا يميز بينه وبين القوة التي بها يحصل كما يميز بين الإبصار وقوة البصر فإنا نعلم أن في العين قوة فارقت بها قوة اليد حتى كأن هذه يرى بها وهذا لا يرى بها
ونعلم أن في العاقل قوة فارق بها المجنون حتى كان هذا يعقل وهذا لا يعقل وأن قدر أنه ساه عن العلم
وعمدة جمهور الذين قالوا ليس العقل إلا ضرب من العلوم الضرورية أنهم قالوا ليس بجوهر لأن الدليل قد دل على أن الجواهر
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 269 ]
كلها من جنس واحد خلافا للملاحدة في قولهم إنها مختلفة لأن معنى المثلين فاسد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه والجواهر على هذا لأن كل واحد منها متحرك وساكن وعالم فلو كان العقل جوهرا لكان من جنس العاقل ولا يستغني العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلا عن وجود مثله وما هو من جنسه وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه فمحال أن يكون عاقلا بجوهر من جنسه ولأنه لو كان جوهرا لصح قيامه بذاته ووجوده لا بعاقل ولصح أن يفعل ويكلف لأن ذلك مما يجوز على الجواهر وفي امتناع ذلك دليل على أنه ليس بجوهر
وثبت أنه غير عرض
قالوا ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشيء من الضروريات إذ لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر وذلك نهاية الإحالة
ومحال أن يكون اكتسابا لأنه يؤدي إلى أن الصبي ومن
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 270 ]
عدمت منه الحواس الخمس ليسوا بعقلاء لأنه لا نظر لهم ولا استدلال يكسبون به العقل وفي الإجماع على حصول الحي العاقل منهم دليل على فساد هذا ولا يجوز أن يكون العقل هو الحياة لأن العقل يبطل ويزول ولا يخرج الحي عن كونه حيا وقد يكون الحي حيا وإن لم يكن عالما بشيء أصلا ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة لأن هذا يؤدي إلى أن الأخرس والأطرش والأكمه ليسوا بعقلاء لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات التي تعلم باضطرار لا باستدلال
ولا يجوز أن يكون العلم تحسين حسن وتقبيح قبيح ووجوب واجب وتحريم محرم ومن جملة العلوم التي هي عقل لأن هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل فوجب أن يكون بعض العلوم الضرورية وهو ما ذكره وما كان في معناه من أن الموجود لا يخلو من أن يكون لوجوده أول وأن الموجود لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة وأن المتحرك عن المكان لا يجوز أن يكون ساكنا فيه في حال واحدة وأن الذات الواحدة لا يجوز أن تكون حية ميتة ونحو ذلك من الأوصاف المتضادة فهذا الدليل هو عمدتهم كلهم في الجملة هذه الفاظ القاضي أبي يعلى الفراء
وهذا القول قالته المعتزلة قبل المتكلمة الصفاتية ومن اتبعهم ولكن أدخلوا فيه العلم بحسن أفعال وقبحها
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 271 ]
قال أبو علي الجبائي العقل عشرة أنواع من العلم وعد منها العلوم البديهية والعلوم الصادرة عن الحواس العلم بحسن الشيء وقبحه ووجوب شكر المنعم وقبح الكفر والظلم والكذب
والمتكلمة الصفاتية الذين قالوا أنه بعض العلوم الضرورية لم يميزوه بتمييز مضبوط بل كبيرهم القاضي أبو بكر قرر أنه بعض العلوم الضرورية كما تقدم وملخص تلك الحجة أنه لا يجوز الاتصاف بالعقل مع الخلو عن جميع العلوم أو بعضها فثبت أنه من العلوم وليس هو من العلوم النظرية إذ شرط ابتداء النظر تقدم العقل فانحصر العقل إذا في العلوم الضرورية ويستحيل أن يقال هو جميع العلوم الضرورية فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل مع انتفاء علوم ضرورية عنه
فاستبان بذلك أن العقل من العلوم الضرورية وليس كلها وسبيل تعيينه والتنصيص عليه أن يقال كل علم لا يخلو العاقل منه عند الذكر ولا يشاركه فيه من ليس بعاقل إشارة إلى العلوم الصادرة عن الحواس والعلوم
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 272 ]
بالآلام واللذات فإنه يستوي في دركها العقلاء وغيرهم من الأطفال والبهائم وهذا إذا قلنا للبهائم علوم بالمحسوسات فيخرج من مقتضى السبر أنه العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات والعلم بأن المعلوم لا يخلو عن نفي أو إثبات والموجود لا يخلو من القدم والحدوث والخبر لا يخلو من الصدق والكذب وعد القاضي من ذلك العلم بمجاري العادات
وهذه الحجة التي احتجوا بها ليست صحيحة وإن كانت في بادئ الرأي مهيبة إذ مدار الحجة على أنه لو لم يكن من العلوم لأمكن وجوده بدون العلم لعدم الدليل على تلازمهما
وهم يعبرون عن هذه النكتة بعبارات تارة يقولون إذا كانا خلافين غير ضدين أمكن وجود أحدهما مع ضد الآخر كالحياة والعلم والقدرة
وتارة يقولون ما تقدم
وتارة يجعلون ذلك كأنه مقدمة بينة أو مسلمة فيقولون لو لم يكن من العلم لجاز أن يخلو العاقل عن جميع العلم وكل هذا ضعيف فإنه ليس كل خلافين يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر بل الخلافين قد يكونان متلازمين من الطرفين أو من أحدهما كالحس مع الحركة الارادية وكالحس مع العلم الحاصل عقيب الإحساس بل هذا شأن كل سبب تام بسببه وكل معلول عله وكل متضايفين كالأبوة والبنوة فإنهما خلافان ومع هذا فهما متلازمان لا يجوز وجود أحدهما مع عدم الآخر فضلا عن ضده
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 273 ]
وقولهم لا دليل حينئذ على تضمن أحدهما الآخر ليس بسديد لوجهين أحدهما أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه في نفس الأمر فلا يكفي في نفي تلازمهما مجرد عدم دليله
الثاني إذا قدر أن العقل هو الغريزة كان العلم باستلزامه للعلم ضروريا لا يحتاج إلى دليل فإن وجود العلم مستلزم للقوة التي هي شرط في العلم كما أن وجود السمع والبصر مستلزم للقوة التي بها يسمع ويبصر والمشروط بدون شرطه محال وإن كان هذا شرطا في العادة والله قادر على خرق العادة فإن الكلام في الواقع لا فيما يمكن وقوعه
وأيضا فإذا قيل إن العقل اسم لمجموع الغريزة والعلم الحاصل بها كان ما ذكروه بعض مسمى العقل فلا يوجد اسم العقل إلا مع وجوده وإن لم يكن هو مجموع العقل
وأيضا فمن المعلوم أنه يدخل في مسمى العقل العمل الذي يختص به العقلاء من جلب المنفعة ودفع المضرة وهذا مما يفرق به بين العاقل والمجنون في عرف الناس كما يفرق بينهما بعلوم ضرورية فليس جعله اسما للعلوم الضرورية بأولى من جعله اسما للأعمال الضرورية التي لا يخلو العاقل منها فإنه من رؤى يلقى نفسه في نار أو ماء فيغرق أو نحو ذلك من المضار التي لا فائدة فيها ونحو ذلك من الأفعال الخارجة عن أفعال العقلاء سلب عنه العقل حتى ينتهي به إلى حد المجنون وإذ كان كذلك فهم بين أمرين
بغية المرتاد [ جزء 1 - صفحة 274 ]
إن جعلوا هذه الأعمال وأعمال العقلاء داخلة في مسمى العقل بطل قولهم هو من جنس العلم فقط
وإن قالوا أفعال العقلاء دليل على العلم الذي هو عقل وكذلك أفعال المجانين دليل على فوات هذه العلوم
قيل لهم فحينئذ قد صار العقل يستلزم أمورا ليست داخلة في مسماه فلا يمتنع حينئذ أن يقال هو الغريزة المستلزمة لهذه العلوم كما قلتم هو العلوم المستلزمة لهذه الأعمال
الوجه السابع
إن هذا مما يبين كذب هذا الحديث المروى كما رووه فإن العقل إذا كان في لغة المسلمين هو عرض قائم
بغية المرتاد [ ج
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق