الاثنين، 18 يناير 2016

قال ابن تيمية الوجه الثامن أن هؤلاء سمعوا في الحديث أن أول ما خلق الله القلم وهذا الحديث معروف ليس مثل الأول رواه أبو داود في سننه عن النبي وروى عن ابن عباس وغيره من الصحابة لكن السلف متنازعون...

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
قال ابن تيمية
الوجه الثامن أن هؤلاء سمعوا في الحديث أن أول ما خلق الله القلم وهذا الحديث معروف ليس مثل الأول رواه أبو داود في سننه عن النبي وروى عن ابن عباس وغيره من الصحابة لكن السلف متنازعون


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 276 ]  


هل المراد بذلك أول ما خلقه من هذا العالم الذي خلقه في ستة أيام وكان عرشه على الماء كما قال هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
وعلى هذا القول فالعرش كان مخلوقا قبل ذلك
أو هو مخلوق قبل العرش على قولين ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره والأحاديث الصحيحة تدل على القول الأول فقال هؤلاء أن ذلك الذي تسميه الفلاسفة العقل الأول هو القلم وهذا كثير في كلامهم وفي كلام صاحب جواهر القرآن وهو من نوع كلام القرامطة


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 277 ]  


قال في الجواهر واعلم أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس فانظر إلى قوله قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمان فإن روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب وإنما قلب المؤمن بين لمة ملك ولمة شيطان هذا يهديه وهذا يغويه والله تعالى بهما يقلب قلوب العباد كما تقلب أنت الأشياء بأصبعيك وانظر كيف تشارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله تعالى أصبعك في روح الأصبيعة وخالف في الصورة واستخرج من هذا قوله إن الله خلق آدم على صورته وسائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه والذكي يتنبه بمثال واحد والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيرا ومهما عرفت معنى الأصبع أمكنك الترقي إلى


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 278 ]  


القدم واليد واليمين والوجه والصورة وأخذت لجميعهاأمرا روحانيا لا جسمانيا فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرت حد القلم وهو الذي يكتب به وإن كان في الوجود شيء يسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فإن الله تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهذا القلم روحاني إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ولم يعوزه إلا قالبه وصورته وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لموافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا
ولا تستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس فإن كنت لا تقدر على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم يسند التفسير إلى الصحابة فإن التقليد غالب عليك فانظر إلى تفسير قوله تعالى على ما قاله المفسرون أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغار حلية أو متاع زيد مثله الآية


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 279 ]  


وأنه كيف مثل العلم بالماء والقلوب بالأودية والينابيع والضلال بالزبد ثم نبهك في آخرها فقال كذلك يضرب الله الأمثال ويكفيك هذا القدر من هذا المعنى فلا تطيق أكثر منه
وبالجملة فاعلم إن كل ما لا يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل لك ذلك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير انتهى كلامه
فهذا الكلام ونحوه من جنس كلام الفلاسفة القرامطة فيما أخبر الله به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر ويجعلون ذلك أمثالا مضروبة لتفهيم الرب والملائكة والمعاد وغير ذلك والكلام عليهم مبسوط في غير هذا الموضع
وصاحب الجواهر لكثرة نظره في كلامهم واستمداده منهم مزج في كلامه كثيرا من كلامهم وإن كان قد يكفرهم بكثير مما يوافقهم عليه في موضع آخر وفي أواخر كلامه قطع بأن كلامهم لا يفيد علما ولا يقينا بل وكذلك قطع في كلام المتكلمين وآخر ما اشتغل به النظر في صحيحي البخاري ومسلم ومات وهو مشتغل بذلك


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 280 ]  


وإنما المقصود هنا التنبيه على ما ذكروه فإن كثيرا اغتروا بهذا لأنهم وجدوه في كلامه وحرمته عند المسلمين ليست مثل حرمة من لم يدخل في الفقه والتصوف دخوله ولهذا كثر فيه كلام أئمة طوائف الفقهاء والصوفية مثل أبي بكر الطرطوشي وأبي عبد الله المازري المغربي وغيرهما من المالكية


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 281 ]  


مثل أبي الحسن المرغيناني وأبي البيان القرشي وأبي عمرو بن الصلاح وابن شكر وأولاد القشيري وغيرهم من الشافعية ومثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي بن الحنبلية مع أن هذين أقرب إلى مذاهب النفاة من غيرهما من الحنبلية


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 282 ]  


وأما الحنفية فكلامهم فيه لون آخر وكانت قد جرت له قصة معروفة معهم ومع أصحاب الشافعية
وهذا الذي ذكره باطل من وجوه كثيرة
منها أن القلم إذا كان أول مخلوق وهو العقل عندهم لم يصح تفسيره بما ينقض العلم في قلوب بني آدم لأن ذلك عندهم إنما هو العقل الفعال وهو العاشر وأول مخلوق على زعمهم هو العقل الأول
الثاني أن تسمية الملائكة التي يجعلونها هي العقول أقلام إذ تسمية بعضهم قلما شيء لا يعرف في كلام أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازا أصلا فالتعبير بلفظ القلم عن ملك يكون عندهم قد أبدع هذا الوجود من أبطل الباطل
الثالث أن الذي في الحديث أن الله خلق القلم وأمره أن يكتب في اللوح قبل خلق بني آدم بل في صحيح مسلم أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء فكيف يكون إنما سمي قلما لأنه ينقش العلوم في قلوب بني آدم
الرابع أن خاصية القلم كونه يكتب به فإذا قدر أن خاصية شيء


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 283 ]  


من الأشياء أن يكتب له أمكن تشبيهه بالقلم أما إذا كانت له أفعال عظيمة غير ذلك فليس تشبيهه بالقلم بأولى من تشبيهه بغير ذلك
والعقل عندهم قد صدرت عنه الجواهر والمواد والصور وما تقوم به النفوس والأجسام من جميع الأعراض كالحياة والعلم والقدرة والكلام والأكوان والألوان والطعوم والروائح وغير ذلك فلأي شيء يسمى باسم عرض من الأعراض التي تصدر عنه دون أن يسمى بما تقتضيه سائر الأعراض بل والجواهر التي صدرت عنه وهو عندهم قد فاض عنه الألواح التي يكتب فيها فهل يكون القلم مبدعا للوح وهل في الحديث أن اللوح تولد عن القلم أو ما يشبه ذلك
ولئن جاز تسمية هذا قلما فتسمية لسان الإنسان قلما أقرب فإنه جسم مستطيل مستدق الرأس يشبه القلم وهو إذا خاطب بالعلم نقش العلم في القلب وخاصيته هي التفهيم دون سائر الأفعال
وقد يقال للقلم أحد اللسانين فتسمية اللسان قلما أشبه وأنسب ومع هذا فلم يسمع أن النبي أو واحدا من الصحابة أراد بلفظ القلم اللسان كلسانه أو لسان الملك الذي نزل عليه فكيف إذا عبر به عما هو أبعد من ذلك
الخامس أن المسلمين يعلمون بالاضطرار أن النبي لم يرد بالقلم ما تريده الفلاسفة بلفظ العقل


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 284 ]  


السادس أنه من الذي قال ما يوجد في قلوب بني آدم من العلم إنما هو من فيض العقل الفعال الذي تقوله الفلاسفة فإن دليل الفلاسفة على ذلك ضعيف بل باطل والكتب الإلهية لم تخبر بذلك بل الأخبار الإلهية تدل على تعدد ما يلقى في قلوب بني آدم وأنه ليس ملكا واحدا بل ملائكة كثيرون وقد وكلت بهم أيضا الشياطين فامتنع أن يكون في الوجود ما يلقى العلم في القلوب على ما ذكروه
السابع أن ما ذكره في حد القلم ليس مستقيما إذ لو صح لصح تسمية كل من علم العلم قلما وإن كان القلم لا يشترط في تسمية أن يكون من مادة مخصوصة فلا بد له من صورة من أي مادة كانت كما قال تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وقال تعالى إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
الثامن قوله لكل شيء حد وحقيقة هي روحه وهو إنما عنى به مثلا كونه كاتبا كما جعل حقيقة القلم وحده كونه ينقش العلم وجعل هذا الحد والحقيقة موجودة في العقل ومعلوم بطلان هذا بالاضطرار فإن حقيقة الجوهر الموجودة لا يكون مجرد كونه موصوفا بفعل منفصل عنه أو متصل به ولو قدر أن تلك الصفة توجد في حده لكانت فصلا تميزه عن غيره مع مشاركة غيره له في الجنس المشترك وذلك يمنع ثبوت الحقيقة لغيره أما أن يجعل هي الحد والحقيقة وحدها فهذا ظاهر البطلان


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 285 ]  


التاسع أنه قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين كما ذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره
أحدهما أن القلم خلق أولا كما أطلق ذلك غير واحد وذلك هو الذي يفهم في الظاهر في كتب من صنف في الأوائل كالحافظ أبي عروبة بن أبي معشر الحراني وأبي القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة بن الصامت أنه قال يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال يا رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله يقول من مات على غير هذا فليس مني
والثاني أن العرش خلق أولا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في مصنفه في الرد على الجهمية


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 286 ]  


حدثنا محمد بن كثير العبدي حدثنا سفيان الثوري حدثنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه ورواه أيضا أبو القاسم اللالكائي في كتابه في شرح أصول السنة من حديث يعلى عن سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد قال قيل لابن عباس إن أناسا يقولون في القدر قال يكذبون لئن أخذت بشعر أحدهم لا نصونه أي لآخذن بناصيته إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 287 ]  


وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق فذكر حديث عبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وغيرهما وسنذكر هذين الحديثين إن شاء الله تعالى ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله تعالى وكان عرشه على الماء على أي شيء كان الماء قال على متن الريح


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 288 ]  


وروى حديث القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله قال أن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون
قال البيهقي ويروى ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعا قال البيهقي وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش القلم وذلك بين في حديث عمران بن حصين ثم خلق السماوات والأرض
وفي حديث أبي ظبيان عن ابن عباس موقوفا عليه ثم خلق النون فدحا الأرض عليها


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 289 ]  


وروى بإسناده الحديث المعروف عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم فقال له اكتب فقال يا رب وما أكتب قال اكتب القدر قال فجرى بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة قال ثم خلق النون فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وأن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة قلت حديث عمران بن حصين الذي ذكره هو ما رواه البخاري من غير وجه
منها ما رواه في كتاب التوحيد في باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 290 ]  


قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع
وقال مجاهد استوى علا على العرش
وذكر من حديث أبي حمزة عن الأعمش عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال إني عند النبي إذ جاءه قوم من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 291 ]  


ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم
ورواه البيهقي كما رواه محمد بن هارون الروياني في مسنده وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي إسحاق الفزاري عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال أتيت النبي فعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت فأتاه نفر من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا بشرتنا فأعطنا فجاءه نفر من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذا لم يقبلها إخوانكم من بني تميم فقالوا قبلنا يا رسول الله أتيناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 292 ]  


هذا الأمر كيف كان قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض قال ثم أتاني رجل فقال أدرك ناقتك فقد ذهبت فخرجت فوجدتها ينقطع دونها السراب وأيم الله لوددت أني كنت تركتها
ففي الحديث الصحيح بيان أنه كتب في الذكر ما كتبه بعد أن كان عرشه على الماء وقبل أن يخلق السماوات والأرض
وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن وهب أخبرني أبو هانىء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله يقول كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 293 ]  


ألف سنة وعرشه على الماء رواه مسلم أيضا من حديث حيوة ونافع بن يزيد كلاهما عن أبي هانىء الخولاني مثله غير أنهما لم يذكرا وعرشه على الماء وقد رواه البيهقي من حديث حيوة بن شريح أخبرني أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه سمع رسول الله يقول قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ورواه البيهقي أيضا من حديث ابن أبي مريم حدثنا الليث


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 294 ]  


ونافع بن يزيد قالا حدثنا أبو هانىء عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعرشه على الماء بخمسين ألف سنة
ففي هذا الحديث الصحيح ما في ذلك من أنه قدر المقادير وعرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض لكن بين فيه مقدار السبق وأن ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقد ضبط هذه الزيادة الإمامان الفقيهان الليث بن سعد وعبد الله بن وهب
فقوله في الحديث فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعرشه على الماء بخمسين ألف سنة يوافق حديث عبادة الذي في السنن أنه لما خلق الله القلم قال له اكتب قال وما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة وكذلك في حديث ابن عباس وغيره وهذا يبين إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة لم يكتب حينئذ ما يكون بعد ذلك وهذا يؤيد حجة من جعله أول المخلوقات من هذا الخلق الذي أمره بكتابته فإنه سبحانه كتبه وقدره قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة
وبكل حال فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد والآثار التي عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا القلم ليس ما يدعيه هؤلاء أنه الذي يسمونه العقل الأول أو الفعال فإنه أمره أن يكتب فقط لا أن يفعل شيئا غير ذلك


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 295 ]  


والعقل عندهم أبدع جميع الكائنات وأمره أن يكتب في الذكر وهو اللوح فيكون اللوح قد خلق قبل أن يكتب القلم شيئا إذ الكتابة لا تكون إلا في اللوح وأيضا فإنه أمره بالكتابة ففرغت تلك الكتابة كما قال فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض وعندهم القلم إذا فسروه بالعقل الذي ينقش العلوم في قلوب بني آدم كتابته دائمة كلما حدث إنسان كتب في قلبه ما يكتبه إلى موته
وكذلك إن فسروه بالعقل الأول فإن كتابته دائمة وأيضا فإنه كتب في الذكر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
وعندهم أن العقل مقارن للسماوات لم يتقدمها وأيضا فإخباره في الحديثين الصحيحين بما يوافق القرآن من أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض وذكره فيهما أن التقدير وهو الكتابة بالقلم كان بين ذلك كما جاء عن الصحابة يبطل أن يكون العقل الأول هو أول المخلوقات وإن سموه هم قلما بل يبطل أن يكون القلم الذي ذكره السلف أيضا مخلوقا قبل العرش وفي ذلك آثار متعددة قال عثمان بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 296 ]  


وقال أيضا حدثنا عبد الله بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة ورشدين بن سعد عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال لما أراد الله تبارك وتعالى أن يخلق شيئا إذ كان عرشه على الماء وإذ لا أرض ولا سماء خلق الريح فسلطها على الماء حتى


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 297 ]  


اضطربت أمواجه وأثار ركامه فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا فأمر الدخان فعلا وسما فخلق منه السماوات وخلق من الطين الأرضين وخلق من الزبد الجبال وروى البيهقي من حديث الأشيب حدثنا أبو هلال محمد بن سليم حدثنا خباب الأعرج قال كتب يزيد بن أبي مسلم إلى جابر بن زيد يسأله عن بدء الخلق قال العرش والماء والقلم والله أعلم أي ذلك بدأ قبل


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 298 ]  


وروى من حديث سعيد بن منصور حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وقال بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وخلق الأقوات ونبات الأرض يوم الخميس وجميع الخلق يوم الجمعة وتهودت اليهود يوم السبت ويوم من الستة كألف سنة مما تعدون وروى بإسناده عن الشيباني عن عون بن عبد الله عن أخيه


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 299 ]  


عبيد الله عن أبي هريرة عن النبي قال إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه قال وقال عبد الله بن سلام إن الله ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وهي ما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس والآثار في هذا كثيرة وإن كان قد تنوزع هل كانء بدء خلق هذا العالم يوم السبت أو يوم الأحد
وقد روى في ابتدائه يوم السبت حديث رواه مسلم فالذي عليه الجمهور وعامة الأحاديث أن ابتداءه يوم الأحد فإذا ثبت بالنصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا وأن التقدير كان لهذا الخلق بطل أصل حجتهم
ومما يوضح ذلك ما ذكره البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق فقال


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 300 ]  


وروى عيسى عن رقبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول قام فينا رسول الله مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه
فهو قد ذكر المبتدأ وجعل المنتهى دخول الدارين ومعلوم أن ما


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 301 ]  


يكون بعد ذلك من تفاصيل أحوال أهل الدارين لم يدخل في هذا فعلم أنه أريد هذا الخلق
وذكر البخاري أيضا الحديث الذي في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي
فقوله لما قضى الله الخلق أي أكمله وأتمه كما قال فقضاهن سبع سموات في يومين


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 302 ]  


ومعلوم أن المراد بالخلق هنا خلق هذا العالم لا خلق الدار الآخرة وهو الإعادة فإنه قال سبحانه وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهذا كله يشهد لأن هذا الخلق هو المقدر بالقلم كما تقدم
فإن قيل فقد احتج طوائف من أهل السنة على أن القرآن غير مخلوق بهذه الآثار وهي قوله أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قالوا فبين أنه أول مخلوق وإن خاطبه بالكتابة ولو كان كلامه مخلوقا لكان يفتقر إلى محل يقوم به ولكان كلامه مخلوقا قبل القلم فإنه خلقه بكلامه
قيل قد يقال حجتهم مستقيمة وإن كان العرش قبله فإن الذين يقولون القرآن مخلوق يقولون هو مخلوق من المخلوقات في هذا العالم كسائر ما خلق فيه من الجواهر والأعراض
وهو عند أكثرهم عرض خلقه قائما ببعض أجسام العالم كما يخلق أصوات الرياح ونحوها
وعند بعضهم هو جسم
وعلى التقديرين هو عندهم جزء من هذا العالم
فإذا ثبت أن أول ما خلقه من هذا العالم القلم بطل أن يكون خلق قبله شيئا من هذا العالم


 بغية المرتاد    [ جزء 1 - صفحة 303 ]  


الوجه العاشر
أن النصوص والآثار المتواترة عن النبي وأصحابه والتابعين متطابقة على ما دل عليه القرآن من أن الله خ







بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة
المؤلف : ابن تيمية
عدد المجلدات : ١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق