كتاب النبوات،
قال ابن تيمية :
فصل وإذا عرفت حكمة الرب وعدله تبين أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته واختاره لها كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكما قال لموسى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وأنه إذا أبلغ الرسالة وقام بالواجب وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم كما مضت به سنته في
النبوات [ جزء 1 - صفحة 258 ]
الرسل قال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم وقال تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في أفواهم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله وعلى الله فليتوك المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ الى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل والرسل صادقون مصدقون من عند الله يخبرون بالحق ويأمرون بالعدل ويدعون الى عبادة الله وحده لا شريك له وأهل الكذب المدعون للنبوة ضد هؤلاء كاذبون يأتيهم الشياطين الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه وينهون عما أمر الله به فإنهم لا بد أن يأمروا بتصديقهم واعتقاد نبوتهم وطاعتهم وذلك مما نهى الله عنه ولا بد أن ينهوا عن متابعة من يكذبهم ويعاديهم وذلك مما أمر الله به فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقى لهم سلطان الصدق ويفعل ذلك بمن اتبعهم وان يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك ويذلهم
النبوات [ جزء 1 - صفحة 259 ]
ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع والادلة والبراهين كما تقدم نوعان نوع يدل بمجرده بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث فهذا يدل بمجرده وان قدر أن أحدا لم يقصد الدلالة به لكن الرب بكل شيء عليم وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالا قصد أن يدل به والنوع الثاني ما هو دليل بقصد الدال وجعله فهذا لولا القصد وجعله دليلا لم يكن دليلا فهو انما قصد به الدلالة فهذا مقصوده مجرد الدلالة وذلك بمجرده هو الدليل وهذا كالكلام الذي يدل بقصد المتكلم وغير ذلك مثل الاشارة بالرأس والعين والحاجب واليد ومثل الكتابة ومثل العقد ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق وجعلت علامة على حدود الارض وغير ذلك ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله سواء كان قد تواطأ معهم عليها مثل أن يقول علامته أن يضع يده على ترقوته أو يضع خنصره في خنصره ونحو ذلك أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدم مواطأة مثل إعطائه عمامته أو نعليه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد وعزل أبيه عن الإمارة يوم الفتح وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه ونحو ذلك فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلا فاذا كانت آيات الانبياء من هذا الجنس فهي إنما تدل مع قصد الرب الى جعلها دليلا وجعله لها دليلا بأن يجعل المدلول لازما لها فكل من ظهرت على يده كان نبيا صادقا فإن الدليل لا يكون دليلا إلا مع كونه مستلزما للمدلول فيمتنع أن يكون دليلا اذا وجد معه عدم المدلول أو وجد ضد المدلول فآيات الانبياء الدالة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبي ووجودها مع مدعي النبوة كاذبا أعظم استحالة فإنها اذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة وإن لم تكن هناك نبوة كاذبة فمع الكاذبة أشد امتناعا فهي مستلزمة للنبوة لا تكون مع عدم النبوة البتة والكاذب قد عدمت في حقه النبوة ووجد في حقه ضدها وهو الكذب في دعواها يمتنع كونه نبيا صادقا فيمتنع أن يخلق الرب ما يدل على صدق الانبياء بدون صدقهم لامتناع
النبوات [ جزء 1 - صفحة 260 ]
وجود الملزوم دون لازمه ومع كذبهم لامتناع وجود الشيء مع ضده والكذب ضد الصدق فيمتنع أن يكون قوله أنا نبي صدقا وكذبا فاذا استلزم الصدق امتنع وجود الكذب وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق ممتنع غير مقدور لكن الممكن المقدور أن ما جعله دليلا على الصدق يخلقه بدون الصدق فيكون قد خلقه وليس بدليل حينئذ ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدل انه دليل على صدقه وليس بدليل مثل خوارق السحرة والكهان كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما لكن هذه ليست دليلا على النبوة لوجودها معتادة لغير الانبياء وليست خارقة لعادة غير الانبياء بل هي معتادة للسحرة والكهان فالتفريط ممن ظنها دليلا لا سيما ولا بد أن تكون دليلا على كذب صاحبها فإن الشياطين لا تقترن إلا بكاذب كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولا يجوز أن يظهر الرب ما جعله دليلا للنبوة مع عدم النبوة كما أنه لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي جعله لبيان معان بدون إرادة تلك المعاني بل ذلك ممتنع من وجوه من جهة حكمته ومن جهة عادته ومن جهة عدله ورحمته ومن جهة علمه وإعلامه وغير ذلك كما قد بسط في مواضع ومن جهة قدرته أيضا فإنه قادر على هدي عبادة وتعريفهم وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه فاذا ما سوي بين الصادق والكاذب فإنه يمتنع التعريف والممتنع ليس بمقدور فقدرته تقتضي خلق الفرق وقد يقال هو قادر لكن لا يفعل مقدوره فيقال فعله له ممكن ولا يمكن إلا على هذا الوجه فيكون قادرا على هذا الوجه فإن قيل هو قادر ولكن لا يفعله قيل إن أريد أنه يمتنع فهذا باطل وإن أريد أنه يمكن فعله ولكن لا يفعله لم يكن على هذا النفي دليل بل وجوده يدل على أنه فعله وأيضا فأفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة وإذا لم يكن ممتنعا تعين أنه واجب وأنه قد فعله وهذا قد فعله وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله يستلزم أن الرب منزه عن أن يفعل بعض الامور الممكنة المقدورة لكون ذلك يستلزم أمرا يناقض حكمته ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده فيمتنع فعله بدون لوازمه أو مع ضده كما يمتنع جعل الدليل دليلا مع وجوده بلا مدلول أو مع وجود
النبوات [ جزء 1 - صفحة 261 ]
ضد المدلول معه والذين قالوا يجوز منه فعل كل شيء ولا ينزه عن شيء يتعذر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي لا الكلام ولا الفعال فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدل على مراده أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الانبياء أو غيرهم تدل لأنه يقدر أن يفعل ذلك وغير ذلك كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق وهم يقولون المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق فمن سوى بين جميع الامور وجعل إرادته لها سواء لم يفرق بين هذا وهذا فقالوا نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب بأنه لو فعل ذلك لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات فإنه إنما يستدل على صدقهم بالآيات فلو أظهرها على يد الكاذب لم يبق قادرا هذه عمدة أكثرهم وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات فيقال لهم هذا لا يبطل قدرته على ذلك ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب ولم يبين صدقه وهذا مقدور ممكن وكل مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه فلم يكن اللازم رفع قدرته بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره وهذا جائز عندكم ومما يوضح هذا أن يقال هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب أم لا فإن قلتم ليس بقادر أبطلتم قدرته وإن قلتم هو قادر فثبت أنه قادر على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب فبقي مشتركا لا يخص أحدهما فلا يكون حينئذ دليلا فمجرد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به وان قلتم لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب فقد رفعتم القدرة فأنتم بين أمرين إن أثبتم القدرة العامة فلا اختصاص لها وإن نفيتم القدرة على أحدهما بطل استدلالكم بشمول القدرة وأيضا فالقدرة إنما تكون على ممكن وعلى أصلكم لا يمكن تصديق الصادق فهم استدلوا بمقدمتين وكلاهما باطلة قالوا لو لم يكن دليلا رفع القدرة وهذا باطل بل يلزم أنه لم يفعل المقدور وهذا جائز عندهم فلا يجب عندهم شيء من الأفعال ثم قالوا وهو قادر على ذلك وعلى أصلهم ليس هو بقادر على ذلك فإنهم قالوا يمكنه تصديق الانبياء بالفعل كما يمكنه التصديق بالقول فيقال لهم كلاهما يدل بالقصد والجعل وهذا إنما يكون ممن يقصد أن يفعل الشيء ليدل وعندكم هو لا يفعل شيئا لشيء فيلزم على
النبوات [ جزء 1 - صفحة 262 ]
أصلكم أن لا يفعل شيئا لاجل أنه يدل به عباده لا فعلا ولا كلاما إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله واذا كان هذا ممتنعا عندكم لم يكن مقدورا فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلا ليدلهم به على شيء بل هذا عندهم فعل لغرض وهو ممتنع عليه وإن قلتم هو وأن لم يقصد أن يفعل شيئا لحكمة لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين فيستدل بأحدهما على الآخر قيل هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم وأن أحدهما مستلزم للآخر وهذا معلوم فيما يدل بمجرده فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه إما ما يدل بالجعل والقصد فيمكن وجوده بدون ما جعل مدلولا له واللزوم إنما يكون بالقصد وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئا لاجل شيء فبطلت الادلة القصدية على أصلكم وهي أخص بالدلالة من غيرها ولهذا لا يكادون يستدلون بكلام الله بل يعتمدون في السمعيات إما على ما علم بالضرورة أو الاجماع وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بد فيها من إرادة الرب ومشيئته أن تكون أدلة فلا بد أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدل وهم لا يجوزون أن يريد شيئا لشيء بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه لم يرد لغيره فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلا على أصلهم فتبين أنه على أصلهم غير قادر على نصب ما يقصد به دلالة العباد وهدايتهم وإعلامهم لا قول ولا فعل فبطلت المقدمة الكبرى وبتقدير أن يكون قادرا على ذلك فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق كان لم يفعل هذا المقدور ولم يجعل ذلك دليلا على الصدق لا يلزم أن لا يكون قادرا فهم اعتمدوا على هذه الحجة وقالوا هذا هذا وهذا هذا فقد تبين أن من لم يثبت حكمة الرب يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم ويلزمه أيضا نفي قدرته على أن يفعل شيئا لشيء فلا يمكنه أن ينصب دليلا ليدل به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب وهم يقولون من فعل شيئا لحكمة دليل على حاجته ونقصه لأنه فعل لغرض والغرض هو الشهوة وذلك يتضمن الحاجة وهذا بعينه يقال في الإرادة أن من أراد فإنما يريد لغرض وشهوة فقولهم بنفي الحكمة يتضمن نفي الارادة ونفي القدرة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن من نفى الحكمة يلزمه نفي الارادة ومن نفى الارادة يلزمه نفي فعل الرب ونفي الأحداث ومن نفى
النبوات [ جزء 1 - صفحة 263 ]
ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود وأن أثبات الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود التنبيه على أن أثبات آيات الانبياء والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدل بها عباده بدون إثبات حكمته ممتنع ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الانبياء وفي كلام الرب سبحانه وهي الآيات التي بعثت بها الانبياء القولية والفعلية واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الانبياء كما قد نبه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل وأما الاستدلال بسنته وعادته فهو أيضا طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق وهم متفقون عليه من يقول
المصدر :
كتاب : النبوات لابن تيمية
>> عدد الأجزاء= 1 <<
النبوات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق